قال ابن القيم رحمه الله :
واصْدَع بما قال الرسول ولا تَخَف = مِن قِلّة الأنصار والأعوان
فالله ناصر دِينه وكتابه = والله كاف عبده بأمَان
لا تَخْشَ مِن كَيد العدو ومَكرهم = فقتالهم بالكذب والبهتان
فجنود أتباع الرسول ملائك = وجنودهم فعساكر الشيطان
لا تَخْش كثرتهم فهم هَمَج الورى = وذُبَابه ، أتَخَاف مِن ذُبَّان ؟
وقال شاعر الصحوة :
أبعد هذا نَهَاب الظالمين وهم = أذلّ مَنْزِلة مِن حِلس حـمّـار ؟
هذا هو شأن المنافقين
فما شأن المؤمنين ؟ لا يخشون إلاَّ الله ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا )
إن أُوعِدوا أو تُوُعِّدوا أيقَنوا أنه لا ينفع ولا يضر إلاَّ الله
( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا )
إننا أمام حروب طاحنة ، وفِتن مُتلاطمة ، لا نعلم ما الله صانع فينا وفيها
ولكن يجب أن لا تتزعزع ثقتنا بالله
ولا يحدث عندنا أدني شك أو ريب في أن الحافظ الله
وأن التوكّل هو : اعتماد القلب على الله ، والثقة بما عنده سبحانه وتعالى ، واليأس مما في أيدي الناس . كما قال ابن القيم .
إن الخوف منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم
فخوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع ، وهو خوف السِّـرّ ، لا يكون إلاَّ لله عز وجل .
فإذا صُرِف هذا الخوف لأحَد غير الله فقد وقع صاحبه في الشرك بالله عز وجل ؛ لأنه عَدَل الخالق بالمخلوق ، وخاف مِن المخلوق كما يخاف من الخالق ، وربما أشـدّ !
ومن هذا الباب الخوف من السّحرة أو الدجالين ، أو الخوف مِن الجن بحيث يُقَرِّب لهم القرابين ، أو يخاف أن يُوقعوا به مَكروها لم يُقدّره الله عز وجل .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام في وصيته لابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تُجاهك ، وإذا سألت فلتسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم ان الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك الا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على ان يضروك لم يضروك الا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف . رواه الإمام أحمد والترمذي .
والخوف مِن الله يحمل صاحبه على مُراقبة الله عز وجل .
قال ابن القيم رحمه الله : الخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين مَحَارِم الله عز وجل ، فإذا تجاوز ذلك خِيف منه اليأس والقنوط . قال أبو عثمان : صِدْق الخوف هو الوَرع عن الآثام ظاهراً وباطنا .
قال ابن القيم : وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : الخوف المحمود ما حَجَزَك عن محارم الله . اهـ .
فهذا الخوف عبادة .
ومن الخوف ما هو جِبلّي ، كَالْخَوف مِن العدوّ أو من وحشّ مُفْتَرس ونحو ذلك .
ومن هذا النوع خوف نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام حينما قال : ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ) ..
( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ )
( وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرني أن أُحْرِق قُرَيشًا ، فقلت : ربِّ إذًا يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خُبْزة ! قال : اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِك . رواه مسلم .
وربما خرج هذا النوع بصاحبه إلى الخوف الْمُحَرّم ؛ كأن يحمله الخوف على ترك صلاة الجماعة وما شابه ذلك .
ولذا قال الله جل جلاله : ( قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَة هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ )
فما دون الله عز وجل لا يملكون نفعا ولا ضَرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا .
( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا )
بل إن الله عز وجل ضرب مثلاً لِضَعْف مَن يُدْعَى مِن دون الله ، فقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ )
فتأمل هذا المثال يتبين لك ضعف الكفّار اليوم وإن بلغوا شأنا في الحضارة المادية . أتستطيع دول الحضارة مُجتمعة أن تَخْلُق ذُبابا ؟
بل ما هو أقل وأحقر من ذلك ! أتستطيع تلك الدول مجتمعة أن تستنقذ لُقمة أخذها الذباب ووَضَعها في فَمـه ؟لا ورب الكعبة لا تستطيع !
ووعد الله حق ، وقوله صدق ( وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ) ، ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا ) ؟ وإنما ذكر الله عز وجل الذباب في هذا المثال – والله أعلم - لِمَا يمتلكه مِن خاصية سُرعة تَحويل الطعام إلى مادة أخرى عن طريق مادة في اللعاب .
أبعد هذا نخاف ممن هم أقلّ وأذلّ مِن الذّباب ؟؟؟ لا تخش كثرتهم فهم همج الورى = وذُبابه ، أتخـاف من ذُبـّان ؟