ما يَنفَعُه أن خُلِّد ذِكْره بالسُّوء ؟!
وما يُجْدِي عنه أن لا يَبْلَى جَسَدُه .. وهو فيما هو فيه مِن العَذَاب ؟!
ما أغنَى عنه مَالُه وما كَسَب !
لا الْمَال أغنى أو نَفَع .. ولا الْجَاه أجْدَى أو شَفَع .. ولا الوَلَد أو الْخَدَم والْحَرَس دَفَع ..
فإنَّ الْخَسْف لَم يَكن بِشَخْصِه .. بل بِـه وبِدَارِه ..
قَارُون في ظِلّ طُغْيَان الْمَال .. لَم يَسْتَمِع إلى نُصْح النَّاصِحِين .. ولَم يَلْتَفِتْ إلى شَفَقَة الْخائفِين ..
(إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)
لا يُحِب الأشِرِين البَطِرِين .. الذين يَدْفَعُهم الْفَرَح إلى مُجاوزة الْحُدود .. ويُخرِجهم الأشَر إلى العُدْوَان .. ويَحْمِلهم الْبَطَر إلى ازدِراء الْخَلْق ..
أمَا إنَّ النَّاصِحِين لَم يُطالِبُوا قَارُون بالتَّخَلِّي عن دُنْيَاه .. ولا إنْفَاق كُنُوزِه .. بل طَلَبُوه أن يُوازِن بَيْن الدَّارَين .. (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)
ثم ذَكَّرُوه بِأصْل هَذه الـنِّعَم ، فقالوا (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) .. والْمَعْنَى : قَابِل الإحْسَان بإحْسَان ..
وبعد أن رَغَّبُوه .. حَذَّرُوه مِن مَغَبَّـة عَمَلِه .. فقالوا : (وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ..
فما كان جواب الْمُتَكبِّر الْمُتَجبِّر الباغي ؟!
(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) !
قال أبو سليمان الداراني : أرَاد العِلْم بِالتَّجَارب ووُجُوه تَثْمِير الْمَال ، فكأنه قال أُوتِيته بِإدْرَاكِي وبِسَعْيِي !
وقال ابن عطية : ادَّعَى أنَّ عِنده عِلْمًا اسْتَوْجَب به أن يَكُون صَاحِب ذَلك الْمَال وتِلك النِّعْمَة . اهـ .
..
ولئن مَات قارُون فقد أبْقَى ذِكْره السيئ ! فلا يُذْكَر بِخير !
ولئن ذَهَب قارُون فقد بَقِي لَه وَرَثَة ! حمَلُوا غَطْرسَته .. وتَبَنَّوا أفْكَاره !
أعْتَدُّوا بِذواتِهم ! وتَاهُوا على الوَرَى بِما أُوتُوا .. مِمَّا لم يَكن لهم في كثير مِنه حَول ولا قُوَّة !
فلا هُم اخْتَارُوا آباءهم .. ولا أوْجَدُوا أنفسهم مِن عَدَم ..
بل خَلَقَهم الله مِن ضَعْف .. وهُم خَلْقٌ لا يَتَمَاسَك .. فما يَلْبَث أن يُرَدّ إلى ضَعْف ..
ووَرَثَة قارُون بَاقُون على مَرّ الأزْمَان .. !
وهكذا هو الإنسان بِطَبعَه الكَنُود الْجَحُود .. (فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، وإذا كان الأمر كذلك فـ (قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .. بل (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) " فَبَسْط الرِّزْق على الكَافِر لا يَدُلّ على كَرَامَتِه "
(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، وذلك لأنَّ الدنيا دَار امْتِحان .
ومِن وَرَثَة قارُون مَن إذا وُسِّع له في رِزْقَه حَمَله ذلك على التَّمادي في المعاصي ! زاعِمًا أنه إنما أُوتي ما أُوتِي لِكَرَامَته على الله (فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) ..
هذا مغْرُور .. ويُقابِله جَاحِد (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) ..
وليس الأمر كَما ظَنُّوا ، فقد نَفَى الله ذلك بِقَولِه : ( كَلاَّ )
قال ابن القيم : " فَرَدَّ اللهُ سُبحانه على مَن ظّن أنَّ سَعَة الرِّزْق إكْرام ، وأنَّ الفَقْر إهَانة ، فقال : لَم أبْتَلِ عبدي بالغِنى لِكَرَامَتِه عَلَيَّ ، ولم أبْتَلِه بالفَقْر لِهَوانِه عليَّ " .
والمعنى " ليس كُلّ مَن وَسَّعْتُ عليه وأعْطَيته أكُون قد أكْرَمته ، ولا كُلّ مَن ضَيَّقْتُ عليه أكُون قد أهَنْته ؛ فالإكْرام أن يُكْرِم اللهُ العَبدَ بِطَاعته والإيمان به ومَحَبته ومَعْرفته ، والإهانة أن يَسْلُبْه ذلك "
كما قال ابن القيم .
ومِن وَرَثَة قارُون مَن إذا عَلَّمه الله عِلْمًا .. وشَبّ وترَعْرَع على نِعَم الله .. كَفَرها .. وجَحَدها
وقال : أنا عِصَامِيّ .. صنعتُ نفسي بنفسي !
وقديما قال أحد هؤلاء :
وإني وإن كُنت الأخِير زَمانه *** لآتٍ بما لم تَستطعه الأوائل
فأراه الله ضعفه وعَجْزه على يَديّ طِفل صغير .. قال له : لقد أتَتِ الأوائل بثمانية وعشرين حَرفًا ، فَأتِ أنتَ بِحَرْف واحِد ! فبُهِتَ الذي تَكَبَّر ! وانْقَطَع الذي تَجَبَّر !
وربما ارْتَقَى الإنسان مُرْتَقًى صَعْبًا ! فادَّعْى مَا ليس لأحَدٍ مِن البَشَر ، كَقول الشاعر :
[ أوْجَدت نَفْسي مِن اللاشي والانعِدَام ]
!
ولا يُوجِد مِن العَدَم إلاَّ الله تبارك وتعالى .
فإن كان الشاعر صَادْقًا أنه أوْجَد نفسَه مِن عَدَم .. فَلْيَمْنَع عنها الْمَوْت .. أو لِيَدْفَع عنها البلاء !
وقد يَدَّعِي الإنْسَان ذلك في غيره ، كَقَول الشاعر في مَمْدُوحِه :
[ يصَيِّر مِن الإصْرار مَا لا يصِير ]
!
عَجِبْت .. وطال عَجَبِي ! أن يُقال هذا في حَقّ مَخْلُوق لا يَمْلك لِنَفْسه – فَضْلاً عَن غيره – نَفْعًا ولا ضَرًّا .. ولا مَوتًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا ..
فإنَّ الإنسان عموما لو تسلَّطَتْ عليه بعوضة ! لَمَا اسْتَطاع الْخَلاص مِنها !
كَم مرَّة آذتْه حتى تَورَّم جِلْدُه ؟!
وكم مرّة تسلَّط عليه " فَيْرُوس " لا يُرَى بالعين الْمُجرَّدَة .. فطَرَحَه أرْضًا .. وألْزَمَه فِراشه ؟!
وهو – أي الإنسان – مع ذلك يَمْشي على الأرض وهي تَشْتَكِي ظُلْمَه وجَوْرَه !
وإذا كان ذلك حال قارون .. وحَال ورَثَتِه .. فَحَال المؤمن الـنَّظَر إلى أنَّ مَا بِه مِن نِعْمَة فَمِن الله وَحْده .. يَرى أنه لا َحْول له ولا طَوْل .. فَيَبْرأ مِن حَوْلِه وقُوّته ، فهو يُردِّد : لا حول ولا قوّة إلا بالله ..
المؤمن لا يَتعاظَم في نفسه .. ولا يَخْتَال في مِشْيَتِه ..
قال عُتْبَة بن غزوان رضي الله عنه : وإني أعُوذ بالله أن أكُون في نفسي عَظيما ، وعِند الله صَغيرا . رواه مسلم .
المؤمِن يَرى أنه إذا أَنْعَم عليه مَولاه .. فَبِمَحْضِ جُودِه وكَرَمِه ..
وإن قُدِر عليه رِزْقه .. فذلك بِذَنْبِه .. ولِحِكْمَة يَعْلَمها الله .. فهو على عِلْم " أنَّ الله تعالى نَحَّى أولياءَه عن الاغْتِرار بالدُّنيا وفَرْط الْمَيْل إليها " كما قال القرطبي .
والله سبحانه وتعالى " مَاضٍ في عَبْدِه حُكْمُه ، عَدْل فيه قَضاؤه ، له الملك وله الحمد ، لا يَخْرُج في تَصَرّفه في عباده عن العَدل والفَضْل ؛ إن أعْطَى وأكْرَم وهَدَى ووَفَّق ، فَبِفَضْلِه ورَحْمته ، وإن مَنَع وأهَان وأضَلّ وخَذَل وشَقِي فَبِعَدْلِه وحِكْمَتِه " كما يقول ابن القيم .