وفي حديث أَبِى جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ وَهُوَ بِالأَبْطَحِ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ . قَالَ : فَخَرَجَ بِلاَلٌ بِوَضُوئِهِ فَمِنْ نَائِلٍ وَنَاضِحٍ . قَالَ : فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ . قَالَ : فَتَوَضَّأَ وَأَذَّنَ بِلاَلٌ . قَالَ : فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا - يَقُولُ : يَمِينًا وَشِمَالاً - يَقُولُ : حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ ، حَيّ عَلَى الْفَلاَحِ . رواه مسلم .
قال النووي : قوله : " فأذَّن بلال" فيه الأذان في السفر . قال الشافعي رضي الله عنه : ولا أكْرَه مِن تَرْكه في السفر ما أكْرَه مِن تَرْكه في الحضر ؛ لأن أمْر المُسَافِر مَبنيّ على التخفيف . اهـ .
وأمَر النبي صلى الله عليه وسلم المؤذِّن أن يُؤذِّن في عرفة وفي مزدلفة .
وفي حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما في صِفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم : ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ ، فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ .
وفيه أيضا :
أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْن . رواه مسلم .
وأمَر النبي صلى الله عليه وسلم المؤذِّن أن يُؤذِّن في السفر عندما ناموا .
ففي حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما : كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها ، فما أيقظنا إلا حرّ الشمس ...
وفيه : فلما استيقظ شَكَوا إليه الذي أصابهم . قال : لا ضير أو لا يَضير ، ارْتَحِلُوا ، فارتحل فسار غير بعيد ، ثم نزل فدعا بالوضوء ، فتوضأ ، ونُودِي بالصلاة فصلى بالناس . رواه البخاري ومسلم .
وروى الإمام مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات بَرْد ورِيح ، فقال : ألا صَلّوا في الرِّحال ، ثم قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول : ألا صَلّوا في الرِّحَال .
قال ابن عبد البر : وليس في حديث مالك هذا أنه كان في السفر ، ولكنه قَيَّده بِتَرجمة الباب . وقد رُوي أن ذلك في السفر مِن وُجوه ذَكَرْتُها في التمهيد .
وفي هذا الحديث مِن الفِقه : الأذان في السفر .
اختلف الفقهاء في ذلك ؛ فروى بن القاسم عن مالك أن الأذان إنما هو في المِصْر للجماعات في المساجد .
وروى أشهب عن مالك : إن تَرَك الأذان مُسافِر عمدا أعاد الصلاة .
وذكره الطبري قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى عن أشهب عن مالك .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : أما المسافر فيصلي بأذان وإقامة ، ويُكره أن يُصَلّي بِغير أذان ولا إقامة .
قالوا : وأما الْمِصْر فيُسْتحب للرَّجل إذا صلى وحده أن يُؤذِّن ويُقيم ، فإن استجزأ بأذان الناس وإقامتهم أجزأه .
وقال الثوري : تجزئك الإقامة مِن الأذان في السفر ، وإن شئت أذّنت وأقَمْت .
وقال أحمد بن حنبل : يُؤذن المُسَافِر على حديث مالك بن الحويرث ...
واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إن تَرَك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته ، وكذلك لو ترك الإقامة عندهم ، وهُم أشد كراهية لِتَرْكِه الإقامة .
قال ابن قدامة : ويُشْرع الأذان في السفر للراعي وأشباهه ، في قول أكثر أهل العلم . اهـ .
وقال القرطبي في تفسيره : وذكر عن أشهب عن مالك : إنْ تَرَك الأذان مسافر عمدا فعليه إعادة الصلاة . وكَرِه الكوفيون أن يُصَلّي المسافر بغير أذان ولا إقامة ، قالوا : وأما ساكِن الْمِصْر فيُسْتَحَبّ له أن يُؤذِّن ويُقيم ، فإن استجزأ بأذَان الناس وإقامتهم أجزأه . وقال الثوري : تجزئه الإقامة عن الأذان في السفر ، وإن شئت أذَّنْت وأقَمْت . وقال أحمد بن حنبل : يُؤذِّن المسافر على حديث مالك بن الحويرث . اهـ .
وقال ابن رجب في شرح البخاري ، بعد أن أوْرَد الأحاديث : وقد دَلّت هذه الأحاديث على مشروعية الأذان في السفر لجميع الصلوات ، فإن منها ما فيه الأذان في السفر ليلاً ، كحديث ابن عمر ، ومنها ما فيه الأذان في السفر نهارا ، كحديث أبي جحيفة ، فإن فيه الأذان للظهر والعصر بالأبطح ، وحديث أبي ذر ، فإن فيه الأذان للظهر ، وحديث مالك بن الحويرث يَعُمّ سائر الصلوات ، وأحاديث الأذان بِعَرَفة تَدُلّ على الأذان للجَمْع بين الظهر والعصر ، وأحاديث الأذان بالمزدلفة تَدُلّ على الأذان للجَمْع بين المغرب والعشاء ...
ثم قال : وقد اختلف العلماء في الأذان في السفر :
فذهب كثير منهم إلى أنه مشروع للصلوات كلها .
قال ابن سيرين : كانوا يُؤمَرون أن يُؤذّنوا ويُقيموا ، ويَؤمّهم أقرؤهم . خرجه الاثرم .
وهو قول أبي حنيفة والشافعي .
ونقل ابن منصور عن أحمد وإسحاق أنه يُؤذَّن ويُقام في السفر لكل صلاة ، واحتجا بحديث مالك بن الحويرث .
ولكن أكثر أصحابنا على أن الأذان والإقامة سُـنَّة في السفر ، ليس بفرض كفاية ، بل سنة بخلاف الحضر .
ومن متأخريهم من سوى في الوجوب بين السفر والحضر ، والواحد والجماعة ، وهو قول داود .
وقال ابن المنذر : هو فَرْض في حق الجماعة في الحضر والسفر .
وظاهر تبويب البخاري يدل على أنه يَرى الأذان إنما يُشْرَع في السفر للجماعة ، دون المنفرد . اهـ .