أيَّها الناسُ، اتقوا اللهَ الذي إنْ قُلْـتُم سَمِع ، وإن أضْمَرْتم عَلِم . وبادِرُوا الموتُ الذي إنْ هربْتُم منه أدركْكُم ، وإنْ أقمْتم أخذْكُم .
أما بعد :
فإنَّهُ ما زَانَ أحدٌ نَفْسَه وزَكَّاها ورَفَعَها بِمثلِ طاعةِ اللهِ، ولا حقَّرَ أحدٌ نَفْسَه وصغَّرَها بِمثلِ معصيةِ اللهِ .
ففي الطاعَةِ عِزٌّ ورِفْعَة ، وفي المعصيةِ ذُلٌّ ومهانَة .
قال الحسن البصري : أبَى الله عَزَّ وَجَلَّ إلاَّ أن يُذِلَّ مَن عَصَاه .
وقال يحيى بنُ أبي كَثير : كَان يُقَالُ : مَا أكْرَمَ العِبَادُ أنْفُسَهم بِمِثْل طَاعَةِ الله ، ولا أهَانَ العِبَادُ أنْفُسَهم بِمِثْلِ مَعْصِيَةِ الله .
قالَ ابنُ القيِّمِ في قولِهِ تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) ، أي : أفْلَحَ مَن كَبَّرَها وكَثَّرَها ونَمَّاها بِطَاعَةِ اللهِ ، وخَابَ مَن صَغَّرَها وحَقَّرَها بِمَعَاصِي اللهِ، فالنُّفُوسُ الشريفةُ لا تَرْضَى مِنَ الأشياءِ إلاَّ بأعلاها وأفْضَلِها وأحْمَدِها عاقِبةً ، والنُّفُوسُ الدنيئةُ تَحُومُ حَولَ الدَّنَاءاتِ وتَقَعُ عليها ، كما يَقَعُ الذُّبَابُ على الأقْذَارِ ، فالنَّفْسُ الشَّرِيفةُ الْعَلِيّةُ لا تَرْضَى بالظُّلْمِ ولا بالفَواحشِ ولا بالسَّرقةِ والخيانةِ ، لأنها أكبرُ مِنْ ذلكَ وأجَلُّ، والنّفْسُ الْمَهِينةُ الْحَقِيرةُ والْخَسِيسةُ بالضِّدِّ مِنْ ذلكَ ؛ فَكُلُّ نَفْسٍ تَمِيلُ إلى ما يُناسِبُها ويُشاكِلُها . اهـ .
أيها المؤمنونَ :
لَمَّا كان للصيامِ عظيمُ الأجرِ ، وكان الصيامُ تربيةً وتزكيَةً ، كان على مَنْ صامَ أن يَحفَظَ صيامَهُ مما يَخدِشُهُ .
والصومُ عبادةٌ جليلة ، قد أخْفَى اللهُ جَزيلَ ثوابها .
فقال: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ . رواه البخاري ومسلم .
قال ابنُ رَجبٍ : فالصائمُ في ليلِه ونهارِه في عبادةٍ ، ويُسْتَجَابُ دُعَاؤه في صيامِه وعند فِطْرِه ؛ فهو في نهارِه صائمٌ صابر ، وفي ليلِه طاعِمٌ شاكِر . اهـ .
أيُّها الكرامُ :
ليسألْ كُلٌّ مِنّا نَفسَه : هل صامَ الصيامَ الذي يُريدُهُ اللهُ عزَّ وَجَلّ ؟
فما صَامَ الصيامَ الذي يُريدُهُ اللهُ عزَّ وَجَلّ مَن أمْسَكَ عن الْمُفَطِّراتِ نَهَارَهُ ثم أفْطرَ على ما حرَّمَ اللهُ ..
ما صامَ حقًّا مَنْ أطْلَقَ نَظَرَهُ في الْحَرَامِ ، وسَهِرَ على ما يُغضِبُ اللهَ .
ما صامَ صِدْقًا مَن ساءتْ أخلاقُه في رمضانَ .
ولم يَصُمْ حَقيقةً مَنْ أشْغَلَ نَفسَه بالقِيلِ والقَالِ ، والتخوُّضِ في أعْرَاضِ عبادِ اللهِ .
ولم يَصُمْ – كما أرادَ الله – مَن لا زالَ في مُعاملاتِه الْمُحَرَّمَة يغدو ويرَوح .
لا يُبالِي في كَسْبِه : أمِن حَلالٍ أمّ مِن حَرَام ؟
ولا يُبالِي في إنْفَاقِه : أفي حَلالٍ أو في حَرَام ؟
وجُملةُ القولِ : أن مَن لم يَرتَدِعْ عن فِعْلِ الفواحشِ والمنكراتِ ، ولم يَلتَزِمِ الفرائضَ والواجِباتِ؛ فإنه لم يَسْتَفِد مِن دَرْسِ الصيام .
فاتقوا الله عبادَ الله تبلُغوا رِضا الله .
قال جعفرُ بنُ محمد : مَن أخْرَجَه اللهُ مِن ذُلِّ الْمَعْصِيةِ إلى عِزِّ التَّقْوى أغْنَاهُ اللهُ بِلا مَالٍ ، وأعَزَّه بلا عَشِيرَةٍ ، وآنَسَهُ بلا أنِيس .