بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خيراً شيخنا الفاضل على هذا الجهد الطيب الذي تخصصوه من وقتكم للرد على أسئلتنا
محل سؤالي يا شيخنا هو أنني طالب علم , وكما يعلم فضيلتكم فإن طالب العلم يكون محطّ أنظار العوام وقدوتهم, بل لا أبالغ إن قلت أنهم أحياناً يتصيدون له الخطأ! فمن الواجب عليه أن يكون مثالياً في خُلُقه وهيئته, ولابد له من حشمة ووقار, ويحفظ معهم مروءتة وهيبتة حتى يلاقي كلامُه صدىً في نفوسهم, ولهذا السبب أجد في نفسي أحياناً حرجاً شديداً من المزاح معهم خشية أن يقدح هذا في مروءتي, ويسقط عندهم هيبتي, حتى أنني في بعض الأحيان أشعر أنهم يهابونني!! رغم أني طلق الوجه لا أقابل أحدهم إلا وتبسمت له وأخذت على يده، وربما كان ذلك لما عُرف عني من شدتي على بعض أهل البدع لاسيما الإخوان المسلمين وأهل التصوف منهم والذين يشكلون دهماء البلد الذي أعيش فيه!
وهذا بالطبع لا يرضيني فقد كان رسول الله (ص) فخماً مفخماً وكان رغم ذلك يمزح دون كذب!
فهلا أوضحت لي يا شيخنا متى يكون المزاح خارماً للمروءة ومتى لا يكون كذلك؟!
وجزاك الله خيراً
وآسف لإطالتي
الجواب :
وجزاك الله خيرا
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزَح ولا يقول إلاَّ حقا .
ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا : يا رسول الله إنك تُدَاعِبنا . قال : إني لا أقول إلاَّ حقا . رواه الإمام أحمد والترمذي .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم لأصحابه ، ابتسامة تأسِر القلوب ، وتأخذ بالألباب .
قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه : ما حَجَبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ، ولا رآني إلاَّ تبسَّم في وجهي . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : ولا رآني إلاَّ ضَحِك .
ولم يكن عليه الصلاة والسلام يَتَميَّز عن أصحابه بشيء ، بل كان الرجل الغريب يدخل مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيسأل : أيّكم محمد ؟!
ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رَجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ، ثم قال لهم : أيكم محمد ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم . قال : فقلنا : هذا الرجل الأبيض المتكئ . رواه البخاري .
وكان عليه الصلاة والسلام يُمازِح الصغير والكبير .
ومع ذلك كان الصحابة يَهابُون رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم تواضعه لهم ، وتبسّطه معهم .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يمزحون مع بعضهم ، بل جاء عنهم أنهم كانوا يترامَون بِقشور البطيخ .
روى البخاري في الأدب المفرَد من طريق بكر بن عبد الله قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ ، فإذا كانت الحقائق كانوا هُم الرِّجَال .
وأقْبَل أبو هريرة في السوق يحمل حُزمة حَطب - وهو يومئذ خليفة لمروان - فقال : أوسِع الطريق للأمير !
وكان الأئمة والعلماء يَمزحون ، واشتهر بعضهم بالطّرفة ، كالإمام الشعبي والأعمش ، ولم يُنقص ذلك من إمامتهم .
وينبغي أن يُعلَم أنه ليس كل أحد يُمزَح معه ، كما أن المزاح لا يكون في كل وقت ؛ لأن كَثرته تُذهب الهيبة ، وتُسقط المروءة ، خاصة إذا صاحبه تبذّل !
وقد يتبسّط العالم أو طالب العلم مع خواصّ أصحابه في أمور لا تكون مع عامة الناس .
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَل بئر أريس جلس على حافة بئر أريس وتوسَّط قُفّها ، وكشف عن ساقيه ، ودَلاهما في البئر ..
قال أبو موسى رضي الله عنه : فجاء أبو بكر فدفع الباب ، فقلت : من هذا ؟ فقال : أبو بكر ، فقلت : على رِسْلك . قال : ثم ذهبتُ فقلت : يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن ، فقال : ائذن له ، وبَشِّره بالجنة . قال : فأقبلت حتى قلت لأبي بكر : ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرك بالجنة . قال : فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القُفّ ودَلّى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكشف عن ساقيه ، ثم رَجعتُ فَجَلَسْتُ ... فإذا إنسان يُحَرِّك الباب ، فقلت : من هذا ؟ فقال : عمر بن الخطاب ، فقلت : على رِسْلِك ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّمت عليه ، وقلت : هذا عمر يستأذن ، فقال : ائذن له ، وبَشِّره بالجنة ، فجئت عمر ، فقلت : أذِن ويُبَشِّرك رَسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة . قال : فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القُفّ عن يَساره ، ودَلّى رجليه في البئر .. رواه البخاري ومسلم .
وفي حديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُضطجعا في بيتي كاشِفًا عن فخذيه أو ساقيه ، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال ، فَتَحَدَّث ، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك ، فَتَحَدَّث ، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوَّى ثيابه ، فدخل فَتَحَدَّث ، فلما خرج قالت عائشة : دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تُبَاله ، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تُبَالِه ، ثم دخل عثمان فجلستَ وسَوّيت ثيابك ؟ فقال : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ؟ رواه مسلم .
والله تعالى أعلم .
المجيب الشيخ/ عبدالرحمن السحيم
عضو مكتب الدعوة والإرشاد