نسمات الفجر
الصورة الرمزية نسمات الفجر

الهيئـة الإداريـة


رقم العضوية : 19
الإنتساب : Feb 2010
الدولة : السعودية
المشاركات : 3,356
بمعدل : 0.65 يوميا

نسمات الفجر غير متواجد حالياً عرض البوم صور نسمات الفجر


  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : قسم الخُطب المنبرية
افتراضي خُطبة جُمعة .. عن الوَرَع
قديم بتاريخ : 03-04-2015 الساعة : 08:06 AM

الحمدُ للهِ الذي جَعَلَ في أنْفُسِ المؤمنينَ رَادِعا ، ولَهُمْ مِنَ الخوفِ زاجِرا

قَالَ ابْنُ سِيرِين : إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَاعِظًا مِنْ قَلْبِهِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ . رواه أبو نُعيم في " حِلْيَة الأولياء " .
أمَّا بَعدُ :
فإنَّ مِنْ أجلِّ أخلاقِ المسلمِ : صِدقَهُ مَعَ ربِّهِ ، وتَوقِّي مَا حرَّمَهُ اللهُ ، والوقوفَ عندَ المتشابِهِ ، وتَرْكَ ما خالَطَهُ الشكُّ ، فإنَّ الوَرَعَ تَرَكُ ما خالَطَهُ الشكُّ .

قَالَ إبراهيمُ بنُ أدهمَ : الوَرَعُ تَرْكُ كُلِّ شُبهةٍ .
وقَالَ يونسُ بنُ عُبيدٍ : الورعُ الخروجُ مِنْ كُلِّ شُبهةٍ ، ومحاسبةُ النَّفسِ في كُلِّ طَرفةِ عينٍ .
وقَالَ القاضي عياض : الْوَرَعُ التحرجُ عَنِ الشُّبُهَاتِ ، وَأَصْلُهُ الْكَفّ .
وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : الوَرَعُ : الإمساكُ عَمَّا قَدْ يَضُرُّ ، فَتدخُلُ فِيهِ المحرماتُ والشبهاتُ ؛ لأنَّها قَدْ تَضُرّ .
وقَالَ الْمُنَاوي : الوَرَعُ : تَجنُّبُ الشبهاتِ خوفَ الوقوعِ في مُحَرَّمٍ .
وقيلَ : ترْكُ ما يَريُبُكَ ، ونَفْي ما يَعيبُك ، والأخْذُ بالأوثْقِ ، وحَمْلُ النَّفْسِ على الأشقِّ .
وقِيلَ : النَّظرُ في الْمَطعمِ واللباسِ ، وَتَرْكُ مَا به بَأسٌ .
وقِيلَ : تَجنُّبُ الشبهاتِ ، ومُراقبَةُ الخَطَراتِ .

والوَرَعُ يكونُ في المآكِلِ والمشارِبِ والمكاسِبِ وفي الأقوالِ .
سُئِلَ سُفيانُ بنُ عُيينةَ عَنْ قَوْلِ : " لا شَيْءَ أَشَدُّ مِنَ الْوَرَعِ " ؟ قَالَ : إِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ لأَنَّهُ لا شَيْءَ أَشَدُّ عَلَى الْجَاهِلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا يَعْلَمُ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَكَيْفَ يَتَقَدَّمُ وَكَيْفَ يَتَأَخَّرُ .

قالَ : وَالْوَرَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ :
وَرَعٌ مُنْصِتٌ : وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ ، إِذَا سُئِلَ عَمَّا لا يَعْلَمُ قَالَ : لا أَعْلَمُ ، فَلا يَقُولُ إِلاَّ فِيمَا يَعْلَمُ .
وَوَرَعٌ مُنْطِقٌ : يَلْزَمُهُ الْوَرَعُ الْقَوْلِيُّ ؛ لأَنَّهُ يَعْلَمُ فَلا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُنْكِرَ الْمُنْكَرَ , وَيَأْمُرَ بِالْخَيْرِ , وَيُحَسِّنَ الْحَسَنَ , وَيُقَبِّحَ الْقَبِيحَ , وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ اللهُ بِهِ مِيثَاقَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ ، وَهُوَ أَشَدُّ الْوَرَعَيْنِ وَأَفْضَلُهُمَا ، وَالْعَامَّةُ لا يَجْعَلُونَ الْوَرَعَ إِلاَّ السُّكُوتَ ، وَأَمَّا الْقَوْلُ وَالْجَرَاءَةُ عَلَى الْقَوْلِ - وَإِنْ كَانَ عَالِمًا - فَهُوَ عِنْدَهُمْ قِلَّةُ الْوَرَعِ . اهـ .

وقَالَ إسحاقُ بنُ خَلَفٍ : الوَرَعُ في المنطقِ أشدُّ مِنْهُ في الذهَبِ والفِضَّةِ . اهـ .
وسيأتي الوَرَع المتعلّق باللسان .

والوَرَعُ طُهْرَةٌ للقَلْبِ .
قَالَ ابنُ القيِّمِ : والمقصودُ أنَّ الوَرَعَ يُطَهِّرُ دَنَسَ القلْبِ ونجاسَتَهُ ، كَمَا يُطهِّرُ الماءُ دَنَسَ الثوبِ ونجاسَتَهُ ... وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَقَالَ: " مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ . فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لا يَعْنِي مِنَ الْكَلامِ، وَالنَّظَرِ، وَالاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ . فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ . اهـ .

والوَرَعُ سَهلٌ مَيْسُورٌ على مَن يَسَّرَهُ اللهُ عليه .
قَالَ الْفُضَيْلُ : يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ الْوَرَعَ شَدِيدٌ ، وَمَا وَرَدَ عَلَيَّ أَمْرَانِ إِلاَّ أَخَذْتُ بِأَشَدِّهِمَا ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ .
وَكذلَكَ قَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَان : مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنَ الْوَرَعِ ، دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ .
وقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَسْهَلَ مِنَ الْوَرَعِ ، مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ فَاتْرُكْهُ .

وقَالَ زُهَيْرُ بْنُ نُعَيْمٍ : اجْتَمَعَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ وَحَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَان ، فَقَالَ يُونُسُ : مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنَ الْوَرَعِ ، وقَالَ حَسَّانُ : لَكِنْ مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْهُ ، قَالَ يُونُسُ : كَيْفَ ؟ قَالَ : تَرَكْتُ مَا يُرِيبُنِي إِلَى مَا لا يُرِيبُنِي ؛ فَاسْتَرَحْتُ . اهـ .

وفضَّلَ السلفُ الوَرَعَ والوقوفَ عِنْدَ المتشابهاتِ ، وتَرْكَ ما يُشكُّ بِهِ على كثيرٍ مِنَ الطاعاتِ والقُرُباتِ ؛ لأنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ يَعْمَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَلا يَتْرُكُهَا إِلاَّ صِدِّيقٌ ، وأخصُّ مِنهُ : تَرْكُ المتشابِهاتِ ، واتقاءُ ما يُشكُّ فيه .

قال سَهْلُ بنُ عبدِ الله : أَعْمَالُ الْبِرِّ يَعْمَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، وَلا يَجْتَنِبُ الْمَعَاصِي إِلاّ صِدِّيق .

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو بنِ العَاصِ رضيَ اللّهُ عَنْهُما : أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا : حِفْظُ أَمَانَةٍ ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ . رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ مرفوعا ، ورُوِيَ مَوقوفا ، وَهُوَ أصَحُّ .

وقَالَ الْحَسَنُ : مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْوَرَعِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ مِثْقَالٍ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلاةِ . يعني : مِن النوافِل .
والوَرَع احتياط للدِّين .
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْحَلالِ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ فِي بَابٍ مِنَ الْحَرَامِ .

وقَدْ جَاءَ الحثُّ على تَرْكِ الْمُتَشَابِهِ ، والوقوفِ عِنْدَ حدودِ اللهِ ، والْتِزَامِ الوَرَعِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ . رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجَه والبيهقيُّ في "الشُعبِ" ، وصَحَّحَهُ الألبانيُّ .

وإنّما يُمْلَكُ الدِّينُ بالوَرَعِ ، ويُباعُ الدِّينُ بالطَّمَعِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : قَصْدٌ فِي عِلْمٍ خَيْرٌ مِنْ فَضْلٍ فِي عِبَادَةٍ ، وَمِلاكُ الدِّينِ الْوَرَعُ . رَوَاهُ البيهقيُّ في " شُعَبِ الإيمانِ ".
وقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : يَنْتَهِي الإِيمَانُ إِلَى الْوَرَعِ .
وقَالَ إياسُ بنُ معاويةَ : كُلُّ مَا بُنِي عَلَى غيرِ أساسٍ فَهُوَ هَبَاءٌ، وَكُلُّ ديانةٍ أُسِّسَتْ على غيرِ وَرَعٍ فَهِيَ هَبَاءٌ .

وكَما يَكونُ الوَرَعُ عنِ الْمُتَشَابِهِ يكونُ الوَرَعُ عنِ الحرامِ .

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضيَ اللّهُ عنه : لا تَنْظُرُوا إِلَى صلاةِ أَحَدٍ وَلا إِلَى صيَامِهِ ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى مَنْ إِذَا حَدَّثَ صَدَقَ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ أَدَّى ، وَإِذَا أَشْفَى وَرِعَ .
قَالَ الزمخشريُّ : أَيْ إِذا أَشْرَفَ على مَعْصِيّةٍ امْتنعَ . اهـ .
وأشدّ ذلك : إذا كان في المال ؛ فَمَن تَمكّن مِن مال لا يَحِلّ له ، فلم يَلتمِس لِنفسه الأعذار ، وتَرَك ما لا يَحِلّ له ؛ فهو الوَرِع .

ورسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيِّدُ الوَرِعِينَ ؛ فإنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تورَّعَ عَنْ أكْلِ تمرةٍ واحِدَةٍ ، خشيةَ أنْ تكونَ مِنْ تَمْرِ الصدقةِ ، وتَمْرُ الصدقةِ لا يَحِلُّ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ .
بَلْ ثَبَتَ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَائِمًا ، فَوَجَدَ تَمْرَةً تَحْتَ جَنْبِهِ ، فَأَخَذَهَا ، فَأَكَلَهَا ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَضَوَّرُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، وَفَزِعَ لِذَلِكَ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ ، فَقَالَ : إِنِّي وَجَدْتُ تَمْرَةً تَحْتَ جَنْبِي فَأَكَلْتُهَا ، فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ . رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ ، وَحَسَّنَ إسنادَهُ الحافظُ العراقيُّ .
فإذا كَانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهْتَمَّ لأجْلِ تَمْرةٍ ، خشيَةَ أنْ تَكونَ مِنْ تَمْرِ الصدقَةِ ، فَمَاذا يقولُ مَنْ يَأكُلُ مَا يَعلمُ أنَّهُ صريحُ التحريمِ ، ويبتلِعُ ما يُعادِلُ البعيرَ مِمَّا لا يَحِلُّ لَهُ ؟!

وقَدْ قَلَّ الوَرَعُ في الناسِ ، وتَجَرّأَ كثيرٌ مِن النَّاسِ على صريحِ الْمُحرَّماتِ ، فضلاً عنِ المتشابِهَاتِ .
ذَكَرَ الإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَخْلاقَ الوَرِعِينَ ، فَقَالَ : أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لا يَمْقُتَنَا . أَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَؤُلاءِ ؟ ومَن هو الإمامُ أحمدُ في وَرَعِه ؟!

أيُّها المؤمنونَ
لقدْ تَوَرَّعَ السَّلفُ عنْ دقيقِ الأشياءِ فضلا عنْ جَلِيلِها

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : كَانَ لأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ . رَوَاهُ البخاريُّ .

وفي رواية أبي نُعيم في " الْحِليَة " : قَالَ : إِنْ كِدْتَ أَنْ تُهْلِكَنِي ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي حَلْقِهِ فَجَعَلَ يَتَقَيَّأُ ، وَجَعَلَتْ لا تَخْرُجُ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ هَذِهِ لا تَخْرُجُ إِلاّ بِالْمَاءِ ، فَدَعَا بِطَسْتٍ مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ يَشْرَبُ وَيَتَقَيَّأُ حَتَّى رَمَى بِهَا ، فَقِيلَ لَهُ : يَرْحَمُكَ اللهُ ! كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ هَذِهِ اللُّقْمَةِ ، قَالَ: لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إِلاَّ مَعَ نَفْسِي لأَخْرَجْتُهَا ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : "كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ " ، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْبُتُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِي مِنْ هَذِهِ اللُّقْمَةِ .


وكانَ الصالِحونَ يترُكونَ ما يُشكُّ فيه تَنَزُّهًا .
كَانَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ قَدِ احْتَكَرَ طَعَامًا كَثِيرًا ، فَرَأَى سَحَابًا فِي الْخَرِيفِ فَكَرِهَهُ ، فَقَالَ : أَلا أُرَانِي قَدْ كَرِهْتُ مَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَآلَى أَنْ لا يَرْبَحَ فِيهِ شَيْئًا ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا .

وقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : كَتَبَ غُلامٌ لِحَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ إِلَيْهِ مِنَ الأَهْوَازِ : إِنَّ قَصَبَ السُّكَّرِ أَصَابَتْهُ آفَةٌ ، فَاشْتَرِ السُّكَّرَ فِيمَا قِبَلَكَ ، فَاشْتَرَاهُ مِنْ رَجُلٍ ، فَلَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ إِلاَّ قَلِيلٌ فَإِذَا فِيمَا اشْتَرَاهُ رِبْحُ ثَلاثِينَ أَلْفًا ، قَالَ : فَأَتَى صَاحِبَ السُّكَّرِ ، فَقَالَ : يَا هَذَا إِنَّ غُلامِي كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ ، فَلَمْ أُعْلِمْكَ ، فَأَقَلَّنِي فِيمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ ، فَقَالَ لَهُ الآخَرُ : قَدْ أَعْلَمْتَنِي الآنَ ، وَقَدْ طَيَّبْتُهُ لَكَ ، قَالَ : فَرَجَعَ فَلَمْ يَحْتَمِلْ قَلْبُهُ ، فَأَتَاهُ ، فَقَالَ : يَا هَذَا إِنِّي لَمْ آتِ هَذَا الأَمْرَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ ، فَأُحِبُّ أَنَّ تَسْتَرِدَّ هَذَا الْبَيْعَ ، قَالَ : فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى رَدَّهُ عَلَيْهِ .

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: تَرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فِيمَا لا تَرَوْنَ بِهِ الْيَوْمَ بَأْسًا .
ولذا قال كُلْثُومُ بْنُ جَبْرٍ : كَانَ الْمُتَمَنِّي بِالْبَصْرَةِ يَقُولُ : عِبَادَةَ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ ، وَحِلْمَ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ ، وَوَرَع محمد بنِ سِيرِين .


قال الفُضيل بن عِياض عن ابْنِه عليّ : كَانَتْ لَنَا شَاةٌ بِالْكُوفَةِ أَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ عَلَفٍ لِبَعْضِ الْأُمَرَاءِ أَوِ الْمُلُوكِ أوْ مَنْ يُشْبِهُهُمْ ؛ فَمَا شَرِبَ لَهَا لَبَنًا بَعْدَ ذَلِكَ . رواه أبو نُعيم في " حِلْيَة الأولياء " .

وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ قَدْ بَعَثَ طَعَامًا إِلَى الْبَصْرَةِ مَعَ رَجُلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ يَوْمَ يَدْخُلُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ ، فَأَتَاهُ كِتَابُهُ : إِنِّي قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ ، فَوَجَدْتُ الطَّعَامَ مُبَغَّضًا فَحَبَسْتُهُ ، فَزَادَ الطَّعَامُ ، فَازْدَدْتُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ : إِنَّكَ قَدْ خُنْتَنَا ، وَعَمِلْتَ بِخِلافِ مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي ، فَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ ثَمَنِ الطَّعَامِ عَلَى فُقَرَاءِ الْبَصْرَةِ ، فَلَيْتَنِي أَسْلَمُ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ .

ولَمّا قِيلَ لِطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ : لَوِ ابْتَعْتَ طَعَامًا فَرَبِحْتَ فِيهِ ؟ قَالَ : إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَعْلَمَ اللهُ مِنْ قَلْبِي غَلاءً عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
هذا واللهِ هُوَ الوَرَعُ الصَّادِقُ .

وقَالَ عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ : سَمِعْتُ أَبَا الْوَلَيدِ يَقُولُ : كُنْتُ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ زَائِدَةَ بِالرَّيِّ فَانَطَفَأَ مِصْبَاحُهُ ، فَذَهَبَ غُلامُهُ فَأَخَذَ لَهُ نَارًا مِنْ قَوْمٍ ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ : مِنْ أَيْنَ هَذَا ؟ قَالَ : مِنْ مَوْضِعٍ سَمَّاهُ ، قَالَ : فَطَفَأَهُ عُثْمَانُ ، وَقَالَ: لا نستضيءُ بِنَارِهِمْ .

قَال ابنُ المبارك : اسْتَعَرْتُ قَلمًا بأرض الشام ، فَذَهَب عَليّ أن أرُدّه إلى صاحِبه ، فلمّا قَدِمْتُ " مَرْو " ونَظَرتُ فإذا هو مَعِي ، فَرَجَعتُ إلى أرضِ الشام حتى رَدَدتُه على صاحبه . رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .

وتَنَاهَى وَرَعُ السَّلَفِ حَتَّى تركوا أشياءَ دقيقةً حَذرًا مِمَّا بِهِ بَأسٌ .

أَمَرَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ سَمْنًا ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى وَرَقَةٍ ، فَأَمَرَ بِرَدِّ الْوَرَقَةِ إِلَى الْبَائِعِ .
قال جعفر بن محمد بن يعقوب : جاءَ رسولٌ مِن دار أحمد بن حنبل إليه يَذْكُرُ لَهُ أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلِيلٌ ، وَاشْتَهَى الزُّبْدَ ، فَنَاوَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قِطْعَةً ، وَقَالَ: اشْتَرِ لَهُ بِهَا زُبْدًا . فَجَاءَ بِهِ عَلَى وَرَقِ سَلْقٍ ، فَلَمَّا أَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ : مِنْ أَيْنَ هَذَا الْوَرَقِ؟ قَالَ : أَخَذْتُهُ مِنْ عِنْدِ الْبَقَّالِ . فَقَالَ : اسْتَأْذَنْتَهُ فِي ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : رُدَّهُ . رواه أبو نُعيم في " حِليَة الأولياء " .

وقَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ التُّسْتَرِيُّ :
ذَكَرُوا أَنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ أَتَى عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مَا طَعِمَ فِيْهَا ، فَبَعَثَ إِلَى صَدِيْقٍ لَهُ ، فَاقتَرضَ مِنْهُ دَقِيْقا ، فَجَهَّزوهُ بِسُرعَةٍ ، فَقَالَ : كَيْفَ ذَا ؟
قَالَوا : تَنُّورُ صَالِحٍ مُسْجَرٌ ، فَخَبَزْنَا فِيْهِ .
فَقَالَ : ارفَعُوا .
وَأَمَرَ بِسَدِّ بَابٍ بَينَهُ وَبَيْنَ صَالِحٍ .
قَالَ الإمامُ الذهبيُّ : لِكَوْنِهِ أَخَذَ جَائِزَةَ المُتَوَكِّلِ .

وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حُنَيْفٍ : قَصَدَتْ أُخْتُ بِشْرِ بنِ الحارثِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ , فَقَالَتْ: إِنَّا قَوْمٌ نَغْزِلُ بِاللَّيْلِ وَمَعَاشُنَا مِنْهُ ، وَرُبَّمَا تَمُرُّ بِنَا مَشَاعِلُ بَنِي طَاهِرٍ وَلاةِ بَغْدَادَ وَنَحْنُ عَلَى السَّطْحِ ، فَنَغْزِلُ فِي ضَوْئِهَا الطَّاقَةَ وَالطَّاقَتَيْنِ . أَفَتُحِلُّهُ لَنَا أَمْ تُحَرِّمْهُ ؟ فَقَالَ لَهَا : مَنْ أَنْتِ ؟ قَالَتْ : أُخْتُ بِشْرٍ , فَقَالَ : آهٍ يَا آلَ بِشْرٍ ، لا عَدِمْتُكُمْ ، لا أَزَالُ أَسْمَعُ الْوَرَعَ الصَّافِي مِنْ قِبَلِكُمْ .
(حِلْيَة الأولياء ، لأبي نُعيم)


وحَدَّثَ الْعَبَّاسُ بْن سَهْمٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الصَّالِحَاتِ أَتَاهَا نَعْيُ زَوْجِهَا وَهِيَ تَعْجِنُ ، فَرَفَعَتْ يَدَيْهَا مِنَ الْعَجِينِ ، وَقَالَتْ : هَذَا طَعَامٌ قَدْ صَارَ لَنَا فِيهِ شَرِيكٌ .


وحَدَّثَ ابْنُ رَوْحٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَاهَا نَعْيُ زَوْجِهَا وَالسِّرَاجُ يَتَّقِدُ ، فَأَطْفَأَتِ السِّرَاجَ ، وَقَالَتْ : هَذَا زَيْتٌ قَدْ صَارَ لَنَا فِيهِ شَرِيكٌ . رواهما ابن أبي الدنيا في كتاب " الْوَرَع " .
والمقصود : أن المالَ انتقلَ إلى الوَرَثَة ، فصَاروا شُركاء في المال ولَهُم فيه حقّ .

والوَرَع عن ارتكاب ما حَرَّم الله ، وإن كان صاحِبه مَعذُورًا .
رَوَى الإمام مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا وَهِيَ حَادٌّ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَلَمْ تَكْتَحِلْ حَتَّى كَادَتْ عَيْنَاهَا تَرْمَصَانِ .
قَالَ أَبُو عُمَرَ بن عبد البَرّ : هَذَا مِنْ صَفِيَّةَ - رَحِمَهَا اللَّهُ - وَرَعٌ يُشْبِهُ وَرَعَ زَوْجِهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَمَنْ صَبَرَ عَلَى أَلَمِهِ ، وَتَرَكَ الشُّبُهَاتِ فِي عِلَاجِهِ ؛ حُمِدَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُذَمَّ عَلَيْهِ . اهـ .

وبَكَى بعضُ الصالحينَ على أعمالٍ يسيرةٍ ، بَلْ لا تكادُ تُذْكَرُ .
قَالَ عَطَاءٌ السَّلِيمِيُّ : بَكَيْتُ عَلَى ذَنْبٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً ؛ صِدْتُ حَمَامَةً ، وَإِنِّي أَحْمَدُ اللهَ إِلَيْكُمْ تَصَدَّقْتُ بِثَمَنِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَكَأَنَّهُ ارْتَابَ بِهَا : هَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ أَوْ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ ؟

وَقَالَ: كَهْمَسُ بنُ الْحَسَنِ : بَكَيْتُ عَلَى ذَنْبٍ عِشْرِينَ سَنَة . قَالَوا: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : غَدَّيْتُ رَجُلا فَأَخَذْتُ مِنْ جِدَارِ جَارٍ لِي قِطْعَةَ لَبِنَةٍ لِيَغْسِلَ يَدَهُ . رَوَاهُ البيهقيُّ في " شُعَبِ الإيمانِ" .

أوّاهُ .. مَنْ مِنَّا سَلِمَ ؟
واللهِ لنَحْنُ أحقُّ بالبكاءِ ، وأَوْلَى بالنَّدَمِ .
وَنَحْنُ نبتلعُ ما اشتبَهَ ، ونَأكُلُ ما حَرُمَ .

وتورّعَ العلماءُ عنِ الفتوى والقولِ فِيها بِلا عِلْمٍ .

قال ابنُ شُبْرمة : كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْفِقْهِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَتَبَدَّلَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ بِالَّذِي كَانَ . رواه أبو نُعيم في " حِلْيَة الأولياء " .
وقال ابنُ شُبْرمة : دَخَلتُ على محمد بن سيرين بِواسط فلم أرَ أجْبَن عن فُتْيَا ولا أجْرَأ على رؤيا منه . رواه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " .
قال ابن وهب : سمعتُ مَالِكًا يقول : لم يَكن مِن أمْر الناسِ ولا مَن مَضَى مِن سَلَفنا ولا أدركتُ أحدًا اقْتَدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يَجْتَرِئون على ذلك ، وإنما كانوا يقولون : نَكْرَه كذا ، ونَرى هذا حَسَنًا ، يَنبغي هذا ، ولا نَرى هذا ... ولا يقولون حَلال ولا حرام ، أما سمعتَ قول الله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) ، الحلالُ ما أحَلَّه اللهُ ورسولُه ، والحرامُ ما حَرّمه اللهُ ورسولُه .

وذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ الإمامِ أحمدَ مَسَائِلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ : كَانَ فِيهَا مَسْأَلَةٌ دَقِيقَةٌ فِي رَجُلٍ رَمَى طَيْرًا فَوَقَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ ، لِمَنِ الصَّيْدُ ؟
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : لا أَدْرِي .
قَالَ المروزيُّ : قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَا تَقُولُ أَنْتَ فِيهَا ؟
قَالَ : هَذِهِ دَقِيقَةٌ ، مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فِيهَا ، وَأَبَى أَنْ يُجِيبَ .

وهناك مسائل يُقال فيها : جَبُن عنها الإمام أحمد !

أي : لم يتَجَرّأ على الجواب عنها .

ما أشدَّ وَرَعَ القومِ عنِ القولَ بِلا عِلْمٍ ، وما أجْرَأنَا على القولِ والفتوى بِلا علِم .

والوَرَعُ في اللسانِ أنْ لا يُتَجَاوَزَ بِهِ حَدُّهُ
سُئلَ سفيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : يُغتابُ صَاحِبُ هَوى ؟ قَالَ : يَذْكُرُ مِنْهُ هَوَاهُ ، ولا يَغتَابُهُ فِيما سِوى ذلِكَ .
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : فَتَّشْنَا الْوَرَعَ ، فَلَمْ نَجِدْهُ فِي شَيْءٍ أَقَلَّ مِنْهُ فِي اللِّسَانِ .

ولذا كان الكَفّ عن أعراض الناس عبادة ثقيلة .
رَوَى عَتَّاب بن بَشِير عَنْ خَصَافٍ وَخُصَيْفٍ وعَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالُوا : أَدْرَكْنَا السَّلَفَ وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الْعِبَادَةَ فِي الصَّوْمِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ ، وَلَكِنْ فِي الْكَفِّ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ . رواه
ابنُ أبي الدنيا .

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية رحمه الله :
مَن لم يُوازِن مَا فِي الْفِعْل وَالتّرْك من الْمصلحَة الشَّرْعِيَّة والمفسدة الشَّرْعِيَّة فقد يدع وَاجِبَات وَيفْعل مُحرمَات. وَيرى ذَلِك من الْوَرع كمن يدع الْجِهَاد مَعَ الْأُمَرَاء الظلمَة وَيرى ذَلِك ورعا ويدع الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة خلف الْأَئِمَّة الَّذين فيهم بِدعَة أَو فجور وَيرى ذَلِك من الْوَرع وَيمْتَنع عَن قبُول شَهَادَة الصَّادِق وَأخذ علم الْعَالم لما فِي صَاحبه من بِدعَة خُفْيَة وَيرى ترك قبُول سَماع هَذَا الْحق الَّذِي يجب سَمَاعه من الْوَرع.
وَتَمَامُ الْوَرَعِ : أَنْ يَعُمَّ الْإِنْسَانَ خَيْرُ الْخَيْرَيْنِ وَشَرُّ الشَّرَّيْنِ . اهـ .

وقال ابن القيم رحمه الله :
الصبر عن معاصي اللسان والفَرْج مِن أصعب أنواع الصبر لشدة الدّاعي إليهما وسهولتهما ، فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان ، كالنميمة والغيبة ، والكذب والمِراء ، والثناء على النفس تعريضا وتصريحا ، وحكاية كلام الناس ، والطعن على مَن يُبغضه ، ومدح مَن يحبه ونحو ذلك ، فتتّفق قوة الداعي وتيسّر حركة اللسان ؛ فيضعف الصبر ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذ : امْسِك عليك لِسانك ، فقال : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : وهل يَكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . ولا سيما إذا صارت المعاصي اللسانية معتادة للعبد ، فإنه يَعزّ عليه الصبر عنها ، ولهذا تَجِد الرّجُل يقوم الليل ويصوم النهار ويَتورّع مِن استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة ، ويُطلق لسانه في الغيبة والنميمة والتّفكّه في أعراض الخلق ، وربما في أهل الصلاح والعِلم بالله والدِّين ، والقول على الله ما لا يعلم . اهـ .

أيُّها الكِرامُ
متى اشْتَبَهَ الحلالُ بِالحرامِ فمُقْتَضَى الوَرَعِ تَرْكُ ما تَشَابَهَ .
قَالَ المَرْوزيُّ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ [الإمامَ أحمدَ] عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ مَعَهُ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ لا يَعْرِفُهُ .
قَالَ: لا يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى يَعْرِفَهُ .

فاتقوا اللهَ عِبادَ اللهِ ، خُذوا ما حَلَّ ، ودَعُوا ما حَرُمَ ، واحفظوا ألسِنَتَكُمْ .

قَالَ عُمَرُ بنُ ذَرٍّ : يَا عِبَادَ اللَّهِ لا تَغْتَرُّوا بِطُولِ حِلْمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، وَاحْذَرُوا أَسَفَهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ : (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) .

(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) .

الخطبة الثانية :
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، الرحمنِ الرحيمِ ، مالِكِ يومِ الدِّين .
ثم الصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالَمين .

اتقوا اللهَ عِبَادَ اللهِ :

اتقوا اللهَ عِبَادَ اللهِ :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا اللّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ، فَإِنّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا ، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا ، فَاتّقُوا اللّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ . خُذُوا مَا حَلَّ ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ . رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني والأرنؤوط .

قَالَ أَبو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي حَانُوتًا إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ يَغُلُّ لِي كُلَّ شَهْرٍ عِشْرِينَ دِينَارًا أَتَصَدَّقُ بِهَا كُلّهَا، لا تُخْطِئُنِي صَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُسْأَلَ : مِنْ أَيْنَ أَصَبْتَهَا ؟ وَكَيْفَ صَنَعْتَ فِيهَا ؟ وَكَيْفَ كَانَ نِيَّتُكَ فِيهَا ؟ رواه أبو داود في " الزهد " .


قَالَ وكيعٌ : الدُّنْيَا عِنْدَنَا حَلالٌ وَحَرَامٌ وَشُبُهَاتٌ ؛ فَالْحَلالُ حِسَابٌ ، وَالْحَرَامُ عَذَابٌ ، وَالشُّبُهَاتُ عِتَابٌ .

وقَالَ ذو النُّونِ : طُوبَى لِمَنْ كَانَ شِعَارَ قَلْبِهِ الْوَرَعُ ، وَلَمْ يُعْمِ بَصَرَ قَلْبِهِ الطَّمَعُ ، وَكَانَ مُحَاسِبًا لِنَفْسِهِ فِيمَا صَنَعَ .

أيُّها الكِراَمُ :
تَمَامُ الوَرَعِ : أنْ يَجْعَلَ الإنسانُ بينْهُ وبينَ الحَرَامِ حَاجِزا .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما : إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أَدَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلالِ ، وَلا أَخْرِمُهَا .
وقَالَ أَبو الدَّرْدَاءِ رضيَ اللهُ عنهُ : تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ حَتَّى تَتْرُكَ مَا تَرَى أَنَّهُ حَلالٌ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا .
وقَالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ : لا يُصِيبُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الْحَلالِ ، وَحَتَّى يَدَعَ الإِثْمَ وَمَا تَشَابَهَ مِنْهُ .

أيُّها المؤمنون :
الوَرَعُ حِفْظٌ للنفسِ .
قَالَ جُندبُ بنُ عبدِ اللهِ وهو يُوصي أصحابَهُ : إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَأْكُلَ إِلاَّ طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ . رَوَاهُ البخاريُّ .

والوَرَعُ تعبُّدٌ وتَقَرُّبٌ
قَالَ يَحْيَى بنُ أَبِي كَثِيرٍ : يَقُولُ النَّاسُ : فُلانٌ النَّاسِكُ ، وَإِنَّمَا النَّاسِكُ الْوَرِعُ .
وقَالَ : أفضلُ الأعمالِ الوَرَعُ ، وأفضلُ العبادَةِ التواضُعُ .

وقَالَ الخطابيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ : " الصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ "
يُريدُ الوَرَعَ ، وذلِكَ أنَّ العِباداتِ تَنْقسِمُ إلى قسمَيْنِ : نُسْكٍ ووَرَعٍ ؛ فالنُسْكُ ما أمَرتْ بِهِ الشَّرِيعَة ، والورَعُ ما نَهتْ عَنْهُ . وإنما يُنْتَهَى عَنْ ذَلِكَ بالصَّبْرِ ؛ فَصَارَ الصَبْرُ عَلَى هذا المعْنى كأَنَّهُ نِصْفُ الإيمانِ .
وقَالَ ابنُ رَجَبٍ : لَمَّا كَانَ الإِيمَانُ يَشْمَلُ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَلا يُنَالُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلا بِالصَّبْرِ ، كَانَ الصَّبْرُ نِصْفَ الإِيمَانِ . اهـ .
قَالَ ثورُ بنُ يَزيدَ : مَنْ أمَّ هذا البيتَ وَلَمْ يَكُنْ فيهِ ثلاثُ خِصَالٍ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ حَجُّهُ : مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِلْمٌ يَضبِطُ بِهِ جَهْلَهُ ، وَوَرَعٌ عَمَّا حَرّمَ اللهُ عَليْهِ ، وحُسْنُ الصُّحْبَةِ لِمَنْ صَحِبَهُ .

وما تَجَرَّأَ مَنْ تَجَرَّأَ ، ولا تَسَاهَلَ مَنْ تساهَلَ إلاّ بِغَفْلَتِهِ عن اليومِ الثقيلِ .
(إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً) .


1434 هـ



للاستزادة :
الوَرَع للإمام أحمد
والوَرَع لابن أبي الدنيا
وحِلية الأولياء ، لأبي نُعيم



إضافة رد

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
خُطبة جُمعة .. في شأن الماء نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 24-11-2015 08:33 PM
خُطبة جُمعة عن .. (الإنصاف) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 15-11-2015 01:24 PM
خُطبة جُمعة عن .. (خطر النفاق) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 06-10-2015 07:57 PM
خُطبة جُمعة .. عن (الإحسان) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 03-01-2015 08:22 AM
خُطبة جُمعة (مِن أسبابِ الثباتِ) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 18-04-2014 02:17 AM

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 11:11 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, by Sherif Youssef

يُشْترَطُ فِي حَالِ نَقْلِ الفَتَاوَى مِنْ مُنْتَدَياتِ الإرْشَادِ ذِكْرُ اِسْمِ فَضَيلةِ الشَيْخِ عَبْدِ الرَحمنِ السُحَيْمِ أَوْ ذِكْرُ اسْمِ المُنْتَدى