السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيكم يا شيخ وفي علمكم إحدى الأخوات تسأل , تقول : تعرفت على مسيحية وتعلقت فيها , و هذه المسيحية تذكر الله يعني لمن تقابلها مثلاً تقول : السلام عليكم والحمد لله , وما شاء الله ، و عندما تتحدث معها لا تخبرها بأي أمر من أمور دينها " المسيحية"
وهذه الأخت لم تدعُها إلى الإسلام , تقول هذه الأخت : أن أناس حاولوا معها يقنعوها بالإسلام ولكنها ترفض ومتشددة لدينها وهي تحب هذه المسيحية ومتعلقة بها فما حكم محبتها لهذه المسيحية ؟ وهل تؤثر على الولاء والبراء ؟ و بما ذا تنصحها بخصوص محبتها للمسيحية ؟
وجزاكم الله خير
ولا تجوز صُحبة النصارى على وجه المؤاخاة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : لا تَصْحَب إلاَّ مُؤمِنًا، ولا يأكل طعامك إلاَّ تَقِيّ , رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي . وحسّنه الألباني والأرنؤوط .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : المرء على دِين خليله ، فلينظر أحدكم مَن يُخَالِل . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي . وحسنه الألباني ، وقال شعيب الأرنؤوط عن إسناد أحمد : إسناده جيد .
ويجوز الإحسان إلى الكفّار غير الْمُحَارِبين مِن غير تأثّر القلب بذلك ؛ لقوله تعالى : (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) .
وفَرْق كبير بين أن يُحسَن إلى الكافر وتُحسَن مُعاملته ، وبين أن يُحبّ ويكون له منْزِلة في القلب.
فالأول مشروع في حقّ الكافر غير الْمُحَارِب ، والثاني ممنوع شَرْعًا .
والأول يَكون بِحُسن المعاملة الظاهرة ، والثاني يكون في القَلْب .
قال القرافي في " الفروق " :
الفرق التاسع عشر والمائة بين قاعدة بِرّ أهل الذمة وبين قاعدة التودّد لهم :
اعلم أن الله تعالى مَنع مِن التودد لأهل الذمة بِقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) الآية ، فَمَنَع الموالاة والتودد ، وقال في الآية الأخرى : (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) الآية ، وقال في حق الفريق الآخر : (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) .
فلا بُدّ مِن الجمع بين هذه النصوص ، وأن الإحسان لأهل الذمة مطلوب ، وأن التودد والموالاة منهي عنهما .
والبابان مُلْتَبِسَان ، فيحتاجان إلى الفَرْق، وسِرّ الفَرق : أن عَقْد الذمة يُوجِب حقوقا علينا لهم ؛ لأنهم في جِوارِنا وفي خَفَارَتنا ، وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ودِين الإسلام ؛ فمن اعتدى عليهم - ولو بِكلمة سُوء ، أو غِيبة في عِرض أحدهم ، أو نوع مِن أنواع الأذية - أو أعان على ذلك ؛ فقد ضيّع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دِين الإسلام .
وكذلك حكى ابن حزم في " مراتب الإجماع " له : أن مَن كان في الذمة ، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه ؛ وَجَب علينا أن نَخرج لِقتالهم بالكُراع والسلاح ونَموت دون ذلك ، صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لِعقد الذمة . وحكى في ذلك إجماع الأمة .
فعَقْدٌ يَؤدِّي إلى إتلاف النفوس والأموال صَونا لِمُقْتَضاه عن الضياع ؛ إنه لعظيم .
وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة ، وتَعَيَّن علينا أن نَبَرّهم بِكُلّ أمْر لا يكون ظاهره يدل على مَودّات القلوب ، ولا تعظيم شعائر الكفر ؛ فمتى أدّى إلى أحَدِ هَذين امْتَنَع وصار مِن قِبَلِ ما نُهي عنه في الآية وغيرها .
ويتضح ذلك بالمثل : فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا ، والقيام لهم حينئذ ، ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لِرفع شأن المنادى بها ؛ هذا كله حرام ، وكذلك إذا تلاقينا معهم في الطريق ، وأخلينا لهم واسِعها ورَحبها والسَّهل منها ، وتركنا أنفسنا في خسيسها وحَزْنها وضَيّقها - كما جَرَت العادة أن يَفعل ذلك المرء مع الرئيس ، والولد مع الوالد ، والحقير مع الشريف - فإن هذا ممنوع لِمَا فيه من تعظيم شعائر الكفر ، وتحقير شعائر الله تعالى وشعائر دينه ، واحتقار أهله .
ومن ذلك : تَمكينهم من الولايات ، والتصرّف في الأمور الموجبة لِقَهر مَن هي عليه ، أو ظهور العلو وسلطان المطالبة ؛ فذلك كله ممنوع ، وإن كان في غاية الرفق والأناة أيضا ؛ لأن الرِّفق والأناة في هذا الباب نَوع مِن الرئاسة والسيادة ، وعلو الْمَنْزِلة في المكارم ، فهي درجة رفيعة أوصلناهم إليها ، وعظمناهم بسببها ، ورفعنا قدرهم بإيثارها ؛ وذلك كله مَنهي عنه .
وكذلك لا يكون المسلم عندهم خادِما ولا أجيرا يُؤمَر عليه ويُنْهَى ، ولا يكون أحَدٌ منهم وكيلا في المحاكمات على المسلمين عند ولاة الأمور ، فإن ذلك أيضا إثبات لسلطانهم على ذلك المسلم .
وأما مَا أُمِر به مِن بِرِّهم ومِن غير مودة باطنية ؛ فالرفق بضعيفهم ، وسَدّ خَلة فقيرهم ، وإطعام جائعهم ، وإكساء عارِيهم ، ولِين القول لهم على سبيل اللطف لهم ، والرحمة لا على سبيل الخوف والذّلة ، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا مِنّا بهم لا خوفا وتعظيما ، والدعاء لهم بالهداية ، وأن يُجْعَلوا من أهل السعادة ، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم ، وحفظ غَيبتهم إذا تعرّض أحد لأذيتهم ، وصَون أموالهم وعيالهم وأعراضهم ، وجميع حقوقهم ومصالحهم ، وأن يعانوا على دفع الظُّلم عنهم ، وإيصالهم لجميع حقوقهم ، وكل خير يَحسن مِن الأعلى مع الأسفل أن يفعله ، ومِن العدو أن يفعله مع عدوه ؛ فإن ذلك من مكارم الأخلاق . فجميع ما نفعله معهم مِن ذلك ينبغي أن يكون مِن هذا القَبيل ، لا على وجه العزة والجلالة مِنّا ، ولا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم .
وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جُبِلُوا عليه مِن بُغضنا ، وتكذيب نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأنهم لو قَدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا ، واستولوا على دمائنا وأموالنا ، وأنهم مِن أشدّ العصاة لِرَبّنا ومالِكنا عز وجل ، ثم نعاملهم بعد ذلك بما تقدم ذِكْره امتثالا لأمْر ربنا عز وجل وأمْر نبينا صلى الله عليه وسلم ، لا محبة فيهم ، ولا تعظيما لهم ، ولا نظهر آثار تلك الأمور التي نَستحضرها في قلوبنا مِن صِفاتهم الذميمة ، لأن عقد العهد يمنعنا مِن ذلك ، فنستحضرها حتى يمنعنا مِن الودّ الباطن لهم ، والْمُحَرَّم علينا خاصة ...
وبالجملة : فَبِرّهم والإحسان إليهم مأمور به ، وودّهم وتَوَلّيهم مَنْهي عنه .
فهما قاعدتان : إحداهما مُحَرَّمة ، والأخرى مأمور بها .
وقد أوضحت لك الفرق بينهما بالبيان والمثل ؛ فتأمل ذلك . اهـ .
وقال الطاهر ابن عاشور في تفسير قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) :
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . والمقصود منه أمْره بإبلاغ المسلمين أن موادّة مَن يُعلم أنه مُحادّ الله ورسوله هي مما يُنافي الإيمان ؛ ليكف عنها مَن عسى أن يكون مُتَلَبِّسا بها ...
والموادة أصلها : حصول المودة في جانبين . والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين ، لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودة ، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتبارا بأنّ شأن الود أن يَجلب وُدّا مِن المودود للوادّ .
وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الودّ صادقا ، لأن الوَادّ الصادق يُقابله المودود بمثله . ويُعرف ذلك بشواهد المعاملة ، وقَرينة الكناية توجيه نفي وجدان الموصوف بذلك إلى القوم الذين يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك لم يَقُل الله هنا (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، لأن المودّة مِن أحوال القلب ، فلا تتصور معها التقية ، بِخلاف قوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) إلى قوله : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) . اهـ .