بَلْ كانوا يُقدِّمونَ الْمَوتَ على سُؤالِ النَّاسِ .
قَالَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : حبَّذَا المكروهانِ : الموتُ والفَقْرُ .
قَالَ القاسميُّ : وإنَّما فَرِحُوا بها إذْ لا وَقْعٌ لِشدَّتِها ومرارتِها بالنِّسبةِ إلى ثَمَرَتِها وفائدَتِها ، كما يَفْرَحُ مَنْ عَظُمَتْ أدواؤه بِشُرْبِ الأدويةِ الحاسِمَةِ لَها ، مَعَ تَجَرُّعِهِ لِمَرارتِها . اهـ.
وربما عَمِلَ الرَّجُلُ في عَمَلٍ دنيء ولا يُعَرِّض نَفْسَه لِمَسألةِ الناس .
قال الأصمعيُّ: مَرَرتُ في بعضِ سِكَكِ الكُوفةِ فإذا رَجُلٌ خَرَجَ مِن حُشّ [والْحُشُّ هو مكانُ قضاءِ الحاجة] على كَتِفِه جَرَّة ، وهو يقول:
وأُكْرِمُ نَفْسِي إنني إن أهَنْتُها ... وَحَقِّكَ لم تُكْرَمْ على أحَدٍ بَعْدي .
قال الأصمعيُّ: فقلت له : أبِمِثلِ هذا تُكْرِمْها ؟ قال: نعم! وأسْتَغْنِي عن مَسألةِ مِثْلِك . فَصَاحَ : يا أصمعي! فالْتَفَتُّ فقال:
لَنَقْلُ الصَّخْرِ مِن قُللِ الجبالِ ** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِنَنِ الرَّجَالِ
يَقُولُ النَّاسُ لي في الكَسْبِ عارٌ ** فقلتُ العارُ في ذُلِّ السُّؤالِ
ومَنْعُ السُّـؤَّالِ في الْمَساجِدِ والْجَوامعِ لَهُ أصْلٌ
فقَدْ كَانَ عِكْرِمَةُ إذا رأى السُّـؤَّالَ يومَ الجمعةِ سبَّهُم ويَقولُ : كَانَ ابنُ عباسٍ يَسُبُّهُم ويقولُ : لا يَشهدونَ جُمعةً ولا عِيدا إلاَّ للمَسْألةِ والأذى ، وإذا كانتْ رغبةُ النَّاسِ إلى اللهِ كانت رغبتُهُم إلى النَّاسِ .
وعقّبَ عليه الإمامُ الذهبيُّ بِقولِهِ :
فكيفَ إذا انضافَ إلى ذلِكَ غِنىً مَا عنِ السؤالِ ، وقوةٌ على التَّكسُّبِ .