لما فَرَغ الشيخ رحمه الله من باب إزالة النجاسة ، وبيّن الأشياء النجسة ، عقد باب " صِفة الوضوء " ، وذلك أن المتوضِّئ يحتاج إلى إزالة الخبث قبل رفع الْحَدَث .
فلو قضى الإنسان حاجته فإنه يجب عليه إزالة الخبث قبل الوضوء .
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا علاقة بين الوضوء والاستنجاء ، أي لا يلزم من أراد الوضوء أن يستنجي .
فلا يُفهم من القول بوجوب إزالة الخبث أنه يجب على من أراد الوضوء أن يستعمل الماء ، وهو الاستنجاء .
فلو كان استعمل الأحجار أو المناديل في الاستنجاء والاستجمار ، لم يلزمه أن يغسل الْمَحَلّ عند الوضوء .
والصحيح أن استعمال الحجارة في إزالة الْخَبَث يُطلق عليه " استنجاء " .
قال الإمام البخاري رحمه الله : باب الاستنجاء بالحجارة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : أراد بهذه الترجمة الرد على من زعم أن الاستنجاء مختص بالماء ، والدلالة على ذلك من قوله استنفض ، فإن معناه استنجى . اهـ .
وقول الشيخ رحمه الله : صِفة الوضوء : أي صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، أو الوضوء الشرعي الذي يرفع الْحَدَث وتصحّ به الصلاة .
وَالـنِّـيَّـةُ : شَرْطٌ لِجَمِيعِ اَلأَعْمَالِ مِنْ طَهَارَة وَغَيْرِهَا ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّمَا اَلأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا لِكُلِّ اِمْرِئ مَا نَوَى . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الشَّرح :
أي أن ينوي بوضوئه رفع الْحَدَث ، فإن ابتدأ غسل أعضائه حتى انتصف في الوضوء فإنه لا يصحّ ، لأنه فقد النية في ابتداء العمل .
والنية محلها القلب فلا يحتاج إلى القول بنفسه ، ولا يجوز له أن يتلفّظ بالنيّـة .
وإن توضأ عند حضور الصلاة ، ونوى استباحة الصلاة ، فإنه يكفيه عن نية رفع الحدث .
وإن توضأ بنية رفع الحدث فإنه يكون مُتطهِّراً ما لم يُحدِث ، فيجوز له أن يعمل الأعمال الكثيرة التي تتطلّب الطهارة من الحدث ، كالصلوات الخمس ، وما يُشرع له الوضوء كالطواف وقراءة القرآن .
ولقائل أن يقول : من أين اشترطتم النية ولم تَرِد في آية المائدة ، ولا في صِفة وضوئه عليه الصلاة والسلام ؟
فالجواب : أن الآية تضمّنت النية في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) فالقيام وقصد الصلاة نيّـة .
وأما من وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كعثمان رضي الله عنه وعبد الله بن زيد رضي الله عنه وغيرهما فإنما وَصَفُوا الفعل دون القول ، ولذلك لم يَرِد في وصفهم لوضوئه صلى الله عليه وسلم ذِكر البسملة في أول الوضوء ، ولا التشهّد في آخره .
ثم إن الشيخ رحمه الله بيّن أن النيّـة شرط في جميع الأعمال ، وهي على الصحيح ثلاثة أضرب :
1 – أن تكون رُكن في العمل ، وهذا يكون في الحج ، فإن النية رُكن .
2 – شرط صِحّـة ، وهذا في سائر الأعمال ، في الفرائض والوضوء ونحوها .
3 – شرط كمال ، كالنيّـة في الزكاة ، فإنها إذا أُخِذت من صاحبها ، أسقطت الطّلب عنه .
والحديث الذي أورده الشيخ رحمه الله رواه البخاري ومسلم من حديث عُمر رضي الله عنه ، وهو حديث مشهور ، وسبق شرحه ضمن أحاديث عمدة الأحكام ، وبيان ما يتعلق بالنيّـة .
والصحيح أن النيّـة تدخل في أفعال الـتُّـرُوك ، أي يكون للمسلم نيّـة فيما يأتي وفيما يَذّر .
فإنه إذا نوى ترك السيئة أُجِر عليها ، وكذلك إذا ترك الانتقام ونوى بذلك نيّـة صادقة أُجِر عليها ، وهكذا .
وفرق بين من لا تطرأ عليه المعصية أصلا ، وبين من ينوي وجه الله بِترك المعصية .
وقوله رحمه الله : متفق عليه . يعني أن البخاري ومسلم أخرجا الحديث عن صحابي واحد . فإن اختَلَف الصحابي فإنه لا يُقال فيه : مُتّفق عليه ، وإنما يُقال : رواه البخاري من حديث فلان , ومسلم من حديث فلان .
1 - أن يبدأ بِمقدّم رأسه ، ويُمرّ يديه على رأسه حتى يبلغ بهما قفاه ، ثم يُعيد يديه إلى مُقدّم رأسه .
2 - أن يبدأ بمؤخِّر رأسه ، ويُمرّ يديه على رأسه حتى يصل بهما إلى منابت الشعر في مُقدّم رأسه ، ثم يُعيدهما إلى قفاه .
وهاتان الصفتان دلّ عليهما :
حديث عبد الله بن زيد ، وفيه :
ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ؛ بدأ بمقدَّم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم :
ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر .
3 – أن يمسح كل جهة لوحدها .
ويدل عليه حديث الرُّبَيِّع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندها ، فمسح الرأس كله من قرن الشعر ، كل ناحية بمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته . رواه أبو داود ، وقال الألباني : حسن .
قال القرطبي : ورُويَتْ هذه الصفة عن ابن عمر وأنه كان يبدأ من وسط رأسه .
وهذه الصفة هي الأنسب للمرأة ، ولهذا – والله أعلم – مسح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسح أمام المرأة ولم يمسحه أمام الرِّجال الذين نقلوا صِفة وضوئه .
السَّبـَّـاحَّـة : هي الأصبع السَّـبّابَـة ، وسُمِّيَت سباحة لأنه يُتشهّد بها ويُشار بها في التّسبيح .
والصِّماخ : هو فتحة الأذن ، أو ثُقب الأذن .
وفي حديث الرُّبيِّع رضي الله عنها : " فأدخل إصبعيه في جُحري أذنيه " . رواه أبو داود .
والمراد أنه أدخل أصبعه التي تلي الإبهام في يده اليمنى في أذنه اليمنى ، واليسرى في اليسرى .
وهذا يُجزئ في مسح الأذن ، إلا أن من السنة أن يَمسح ظاهر أذنيه .
وكيف يكون مسح الأذنين ؟
في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه مرفوعاً :
" فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ، وبالسباحتين باطن أذنيه " . رواه أبو داود وابن ماجه .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح أذنيه داخلهما بالسبابتين ، وخالف إبهاميه إلى ظاهر أذنيه ، فمسح ظاهرهما وباطنهما . رواه أبو داود وابن ماجه .
وهل يأخذ لأذنيه ماء جديداً ؟
في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه : " ومسح برأسه بماء غير فضل يده " .
الواجب غسل الرِّجلين مرّة واحدة ، وما زاد فهو سنة ، إلا أنه لا تجوز الزيادة عن الثلاث ، إلا أن يكون في الرِّجْلَين طين أو نحوه فيُزاد لأجل الإنقاء .
ففي حديث عبد الله بن زيد : " وغسل رجليه حتى أنقاهما " .
والصحيح أن الكعبين والمرفقين يدخلان في الوضوء ، ويجب غسل المرفقين مع اليدين ، والكعبين مع القَدَمَين .
قال الشيخ رحمه الله :
هَذَا أَكْمَلُ اَلْوُضُوءِ اَلَّذِي فَعَلَهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .
الشَّرح :
هذا الوضوء الذي وَصَفَـه الشيخ رحمه الله هو الأكمل والأفضل في الوضوء .
وهو أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً .
فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ مرّة مرّة ، ومرتين مرتين ، وثلاثاً ثلاثاً .
روى البخاري عن ابن عباس قال : توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة .
وروى عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين .
وروى بعد ذلك حديث عثمان وفيه الوضوء ثلاثًا ثلاثاً .
فالثلاث أكمل من هذه الناحية .
ولا يعني هذا أنه ليس هناك أكمل منه .
فإنه جاء في الأحاديث تخليل الأصابع وتخليل اللحية للرَّجُل ، وهذا أكمل من هذه الناحية ، أي مَن جَمَع بين الثلاث في الوضوء ، وبين التخليل فهو أفضل وأكمل .
ويجوز أن يكون الوضوء ثلاثاً في بعض الأعضاء ومرّتين في بعضها .
ويدل عليه ما رواه مسلم عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري - وكانت له صُحبة - أنه قيل له : توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه فغسلهما ثلاثا ، ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحدة ، ففعل ذلك ثلاثا ، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا ، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر ، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ، ثم قال : هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم .