نسمات الفجر
الصورة الرمزية نسمات الفجر

الهيئـة الإداريـة


رقم العضوية : 19
الإنتساب : Feb 2010
الدولة : السعودية
المشاركات : 3,356
بمعدل : 0.65 يوميا

نسمات الفجر غير متواجد حالياً عرض البوم صور نسمات الفجر


  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : قسم الخُطب المنبرية
افتراضي خُطبة جُمعة .. في شأن الماء
قديم بتاريخ : 24-11-2015 الساعة : 08:33 PM

أالْحَمدُ للهِ الذي جَعَلَ مِن الماءِ كُلَّ شيءٍ حيٍّ ، وجَعَلَ ذلِكَ عِبْرَةً وآيةً ، فقَالَ : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وخَتَمَ الآيَةَ بالاستفهامِ الإنكارِي بِقولِهِ : (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) قَالَ ابنُ عَطيةَ : ثم وَقَفَهُم على تَرْكِ الإيمانِ تَوْبِيخًا وتَقْرِيعًا . اهـ .
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) ، فَأظْهَر قُدْرَتَه أنْ خَلَقَ مِنَ الماءِ بَشَرا سَميعا بصيرا

بَلْ مَا مِنْ حَيٍّ يدُبُّ على الأرضِ إلاّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنَ الماءِ ، كَمَا قَالَ تَعَالى : (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) .

سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ عَنِ القُدْرَةِ ، فقَالَ: هَا هُنا حِصْنٌ حَصِينٌ أَمْلَسٌ ، لَيْسَ لَهُ بَابٌ وَلا مَنْفَذٌ ، ظَاهِرُهُ كَالْفِضَّةِ الْبَيْضَاءِ ، وَبَاطِنُهُ كَالذَّهَبِ الإِبْرِيزِ ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذِ انْصَدَعَ جِدَارُهُ فَخَرَجَ مِنْهُ حَيَوَانٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذُو شَكْلٍ حَسَنٍ وَصَوْتٍ مَلِيحٍ . يَعْنِي بِذَلِكَ الْبَيْضَةَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الفَرْخُ .

وقَالَ غيرُه : مَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ الْمُنِيرَةِ مِنَ السَّيَّارَةِ وَمِنَ الثَّوَابِتِ، وَشَاهَدَهَا كَيْفَ تَدُورُ مَعَ الْفَلَكِ الْعَظِيمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دُوَيْرَةٌ ، وَلَهَا فِي أَنْفُسِهَا سَيْرٌ يَخُصُّهَا، وَنَظَرَ إِلَى الْبِحَارِ الْمُلْتَفَّةِ لِلأَرْضِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْجِبَالِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الأَرْضِ لِتَقَرَّ وَيَسْكُنَ سَاكِنُوهَا مَعَ اخْتِلافِ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا ... وَكَذَلِكَ هَذِهِ الأَنْهَارُ السَّارِحَةُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ وما ذرأ فِي الأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالنَّبَاتِ الْمُخْتَلِفِ الطُّعُومِ والأرايجِ وَالأَشْكَالِ وَالأَلْوَانِ مَعَ اتِّحَادِ طَبِيعَةِ التُّرْبَةِ وَالْمَاءِ ، عَلِمَ وُجُودَ الصَّانِعِ وَقُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ بِخَلْقِهِ وَلُطْفَهُ بِهِمْ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ وَبِرَّهُ بِهِمْ ، لا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلا رَبَّ سِوَاهُ . نَقَلَهُ ابنُ كثيرٍ

أيُّها المؤمنونَ
مِنْ عَجِيبِ صُنْعِ اللهِ وعظيمِ قُدْرَتِه : أنْ خَلَقَ الْمُتضادَّاتِ وجَعَلَ الشيءَ الواحِدَ سَبَبًا في الرَّحمَةِ وسَبَبًا في العذابِ .
قَالَ تَعَالَى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
قَالَ مُجاهدٌ : مَعْنَاهُ أنَّ هذِهِ إشارةٌ إلى المتضاداتِ والمتقابلاتِ مِنَ الأشياءِ ، كالليلِ والنهارِ ، والشَّقاةِ والسعادةِ ، والهُدى والضلالةِ ، والأرضِ والسماءِ ، والسوادِ والبياضِ ، والصِّحةِ والمرضِ ، والكفرِ والإيمانِ ، ونحوِ هَذَا .
وقَالَ ابنُ القيِّمِ : الحكمةُ إنَّما تَتِمُّ بِخَلْقِ المتضاداتِ والمتقابلاتِ ؛ كالليلِ والنهارِ والعلوِ والسُّفْلِ والطيَّبِ والخبيثِ والخفيفِ والثقيلِ والحلوِ والْمُرِّ والبَرْدِ والألَمِ واللذَّةِ والحياةِ والموتِ والدَّاءِ والدَّواءِ فَخَلْقُ هذه المتقابلاتِ هُوَ مَحَلُ ظُهُورِ الحكمةِ الباهِرَةِ وَمَحَلُ ظهورِ القُدرةِ القاهرةِ والمشيئةِ النافذَةِ والْمُلْكِ الكامِلِ التَّامِّ . اهـ .

ومِنْ ذلِكَ : الْمَاءُ ، ذلَكَ الجِسْمُ اللطيفُ الذي جَعَلَهُ اللهُ أصلا لِحياةِ الأحياءِ ، فإنَّ اللهَ جَعَلَهُ سببا للحياةِ ، كَمَا قَالَ تعالى : (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ، بَلْ سَمّاهُ اللهُ رِزْقا ، فقَالَ : (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)

وَمَثْلُهُ الهواءُ ..
فالماءُ والهواءُ ألْطَفُ الأشياءِ ، وبِهِمَا حياةُ الأحياءِ وربما كانا سببا في هَلاكِ الأحياءِ .

وَكذلكَ النَّارُ : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) .
فالنَّارُ : تُنْضِجُ وتُدْفِي وتُحْرِقُ .

كلُّ ذلِكَ جَعَلَهُ اللهُ آياتٍ لِقومٍ يَعقِلونَ .
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .

وبِالْمَاءِ قِوَامُ حياةِ النَّاسِ ..
قَالَ الخليلُ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) .
فأنبْعَ اللهُ ماءَ زَمْزَمَ ، فأحيا بِه اللهُ بَلَدًا مَيْتا ..

بِالْمَطَرِ يُنبِتُ اللهُ الزَّرْعَ ، ويَدُرُّ بِه الضّرْعَ
قَالَ تَعَالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .
بالماءِ تَحيا الأرضُ بَعْدَ مَوْتِها . قَالَ عزَّ وَجَلّ : (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ، وقَالَ : (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)

بَلْ إذا أَرَادَ اللهُ إحياءَ الأمواتِ أمَرَ اللهُ السماءَ فأمْطَرَتْ
وفي الحديثِ : ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ ، أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ ، مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ ، أَوِ الظِّلُّ - فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وسُقيا المطَرِ نِعْمَةٌ ونُزولُ الغيثِ رَحْمَةٌ (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)
وبِه ثَبَّتَ اللهُ المؤمنينَ (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) .

استسقى الصالِحونَ ، فأغَاثَهُمُ اللهُ ونَجَّاهُمْ .
كَانَ الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فِي سَرِيَّةٍ، فَعَطَشُوا فَصَلَّى، فَقَالَ: اللَّهُمَّ يَا عَلِيمٌ يَا حَلِيمٌ يَا عَلِيٌّ يَا عَظِيمٌ، إِنَّا عَبِيدُكَ وَفِي سَبِيلِكَ نُقَاتِلُ عَدُوَّكَ، فَاسْقِنَا غَيْثًا نَشْرَبُ مِنْهُ وَنَتَوَضَّأُ، وَلا تَجْعَلْ لأَحَدٍ فِيهِ نَصِيبًا غَيْرَنَا، فَسَارُوا قَلِيلا، فَوَجَدُوا نَهْرًا مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ يَتَدَفَّقُ فَشَرِبُوا وَمَلَئُوا أَوْعِيَتَهُمْ، ثُمَّ سَارُوا فَرَجَعَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى مَوْضِعِ النَّهْرِ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِهِ مَاءٌ قَطُّ. رَوَاهُ ابنُ أبي الدنيا في "مجابو الدعوةِ " .

ولَمَّا الْتَقَى ماءُ السماءِ بِماءِ الأرضِ ، وعَلا الماءُ فوقَ رؤوسِ الجبالِ ؛ جَعَلَهُ اللهُ سَببًا في نَجَاةِ قومٍ، وسببًا في هلاكِ آخَرِين .
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) .

فقد جَعَلَ اللهُ الْمَاءَ سببا في نَجاةِ نوحٍ ومَنْ آمَنَ مَعَهُ ، وهُوَ الماءُ نَفْسُهُ جَعَلَهُ اللهُ سببا للهَلاكِ ؛ أهلَكَ اللهُ بِهِ قَوْمَ نُوحٍ .
وجَعَلَ اللهُ الْمَاءَ سببًا في نَجَاةِ مُوسى وقَوْمِهِ، وَجَعَلَه سببا في هَلاكِ فِرْعونَ وَقوْمِهِ
وَرُبما أَرْسَلَ اللهُ الْمَاءَ عُقوبَةً ، كَمَا قَالَ تَعَالى عَنْ آلِ فِرْعُونَ : (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) .

بَلْ مَنْ تأمَّلَ عُقوباتِ اللهِ لأكثرِ الأُمَمِ ، فَسَيجِدُهَا بَأيْسَرِ الأشياءِ ؛ إمَّا بالماءِ ، وإمَّا بِالهواءِ الذي يَنْقلِبُ إلى رِياحٍ ، وإمَّا بِالصَوْتِ الذي يُقطِّعُ القُلوبَ في الأجوافِ ، ونحوِ ذلِكَ ..
وما ذلِكَ إلاّ لِبيانِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى ، وضَعْفِ وعَجْزِ البَشَرِ عَنْ مُقَاوَمَةِ أيْسَرِ الأشياءِ ..

وَرُبْمَا تَتَابَعَ المَطَرُ حَتَى يُهْلِكَ الثِّمَارَ والزُّرُوعَ .
قَالَ ابنُ الجوزيِّ في حوادثِ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائة :
وفي هَذِهِ السَّنَةِ: وَقَعَتْ أمطارٌ عظيمةٌ، وَدَامَتْ واتصلتْ بِجَميعِ العِرَاقِ، وأهلكتْ مَا على رؤوسِ النَّخْلِ وفي الشجرِ مِنَ الأرطابِ والأعنابِ والفواكِهِ، وَمَا كَانَ في الصَّحَاري مِنَ الغَلاّتِ، فَلَمَّا كانَ انتصافُ الليلِ مِنْ ليلةِ السبتِ وَهِيَ ليلةُ الحادي والعشرينَ مِنْ كانونِ الثاني سَقَطَ الثَّلْجُ بِبغدادَ ودامَ سقوطُهُ إلى وقتِ الظُّهْرِ مِنَ الغَدِ فَامتلأتْ بِهِ الشَّوارعُ والدروبُ ، وَقَامَ نحوَ ذِراعٍ . اهـ .

وَقَبْلَ أكثرِ مِن خمسينَ عاما أصابَ أجزاءَ مِنْ هذِهِ البلادِ الغَرَقُ بسببِ تَتابُعِ الْمَطرِ .
حَيثُ استمرَّ هطولُ الأمطارِ على مَدَى ثَمَانيةٍ وخمسينَ يوما ، وتواصَلَ هطولُ المطرِ ليلَ نهار؛ فَحَاصرَتْهُم الأوديةُ ، وتَجَاوَزَ السيلُ أعتابَ المباني فانهارَ أكثرُ البيوتِ والمساجدِ والمتاجرِ عَلَى كُلِّ ما فيها مِنْ أنفسٍ وَمَتَاعٍ ، فَغَادَرَ النَّاسُ بيوتَهُم في المدنِ والقرى هَربا إلى الأماكنِ المرتفعةِ، ولجأوا إلى ما تَبَقّى عِنْدَهُمْ مِنْ بُسُطٍ رَفَعُوها فَوْقَ أغصانِ الشجرِ للاحتماءِ تَحتَها .

قَالَ بعضُ المؤرِّخينَ : وَلَمَّا خَرَجَتِ الأُمَّةُ إلى الصحاري افترشُوا الغبراءَ فَكَانَ غَالِبُهُمْ: الأرضُ فِرَاشُهُمْ ، والسماءُ غِطاؤهمْ بَعْدَ التقلبِ على الأرائكِ الأثيرةِ، وأصبحوا جياعا بَعْدَ التلذذِ بصنوفِ المأكولاتِ، وأصبحتْ مَنَازِلُهم أطلالاً بَعدَمَا كانتْ قصورا شامِخَةً ، وانقطعتْ بِهُمُ السُّبلُ فلا السياراتُ تَصِلُهُم ، ولا الطائراتُ تَهْبِطُ عليهم، هَذَا وَقَدْ تهدمتْ مسَاكِنُهُم على أموالِهِم وأثاثِهِم وأرزاقِهِم، وأصبَحُوا مُعْدَمِينَ إلاّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ .

بَلِ انظرْ في العالَمِ المعاصِرِ : ماذا فعلتِ الأمواجُ بِشَرْقِ آسِيا ..؟
وماذا فَعَلَتْ وتَفْعَلُ في شواطئِ أمريكا ..؟

حينَ يَهبُّ الهواءُ ، ويَغمرُهُمُ الماءُ .. تَتَلاشَى قُوى البَشَرِ ، ويُظْهِرُ اللهُ ضَعْفَهُم .. ويَقِفُونَ في أضْعَفِ مَوْقِفٍ ، أمام جُنودِ اللهِ .. وَمَا يَعْلَمُ جُنودَ ربِّكَ إلاّ هُوَ .


الثانية :
الحمدُ للهِ اللطيفِ الخبيرِ .. العظيمِ الجليلِ ..
سُئلتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْها : بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ ؟ قَالَتْ : كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ ، وَمِيكَائِيلَ ، وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . رَوَاهُ مُسلِمٌ .
قِيلَ: إنَّما خَصَّ هؤلاءِ الملائكةَ تَشْريفا لَهُم، إذ بِهِم تَنْتَظِمُ أمورُ العِبَادِ ؛ أمَّا جِبريلُ فإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ هُوَ الذي أنْزَلَ الكتبَ السماويةَ على أنبياءِ اللهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وَعَلَّمَهُم الشرائعَ وأحكامَ الدِّينِ . وأمَّا ميكائيلُ فإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مُوكَلٌ على جميعِ القَطْرِ والنباتِ وأرْزَاقِ بني آدمَ، وغيرِهِم . وأمَّا إسرافيلُ فإنه عَلَيْهِ السَّلامُ على اللوحِ المحفوظِ، الذي فيه مَا كَانَ وَمَا يكونُ إلى يومِ القيامَةِ، وَهُوَ صَاحِبُ الصوْرِ الذي يَنْفُخُ فيه .

وَكَانَ مِنْ هَدْيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى الْمَطرَ قَالَ : اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا . كَمَا عِندَ البخاريِّ
وكان يَقُولُ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ : رَحْمَةٌ . كَمَا في صحيحِ مُسْلِم .

ومِن شُكْرِ الله على نِعْمَةِ الْمَطَرِ أن يُنسَبَ إلى اللهِ فيَقُولُ المسلمُ : مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ . كما في الصحيحين .

وإذا انْفَتَحَتْ أبْوابُ السماءِ بالماءِ ، تَنَزَّلَتِ الرَّحَماتُ ، وأُجِيبتِ الدَّعواتُ .
وفي الحديثِ : ثِنْتَانِ لا تُرَدَّانِ، أَوْ قَالَ : قَلَّ مَا تُرَدَّانِ : الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ ، وَتَحْتَ الْمَطَرِ . رواه الحاكم ُ، وصححه ، وصححه الألبانيُّ .
وفي الحديثِ الآخَرَ : اطْلُبُوا اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجُيُوشِ، وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ، ونُزُولِ الْغَيْثِ . رواه الشافعيُّ والبيهقيُّ مُرْسَلا ، وصححه الألبانيُّ بِمجموعِ طُرُقِه .

وإذا تأخّرَ نُزولُ المطرِ شُرِعَ للنَّاسِ الاستسقاءُ .
قَالَ الإمامُ الشافعيُّ : وَيَسْتَسْقِي الإِمَامُ بِغَيْرِ صَلاةٍ مِثْلَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِصَلاةٍ ، وَبَعْدَ خُطْبَتِهِ وَصَلاتِهِ ، وَخَلْفَ صَلاتِهِ .
وقَالَ النوويُّ: والاستسقاءُ أنواعٌ :
أَدْنَاها : الدعاءُ بِلا صَلاةٍ ، ولا خَلْفِ صَلاةٍ ، فُرادى ومجتمعينَ لذلِكَ ، في مَسْجِدٍ أو غَيْرِهِ ، وَأَحْسنُهُ ما كَانَ مِنْ أهْلِ الخيرِ .
النَّوعُ الثاني : وَهُوَ أوْسَطُها ، الدُّعاءُ خَلْفَ صلاةِ الْجُمُعَةِ أو غيرِها مِنَ الصَّلواتِ ، وفى خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ .
الثالثُ : أفضلُها ، وهُوَ الاستسقاءُ بِصلاةِ ركعتينِ وخطبتينِ ، وتأهُّبٍ لَها قَبْلَ ذلِكَ . اهـ .
وذَكَر ابنُ القيِّمِ سِتّةَ أوْجُهٍ في استسقائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وإذا تتابَعَ الْمَطَرُ وخُشِيَ مِنْهُ الضَّرَرُ ، فإنَّهُ يُشْرَعُ للنَّاسِ الاسْتِصْحَاءُ .
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ المَوَاشِي، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ، فَدَعَا اللَّهَ، فَمُطِرْنَا مِنَ الجُمُعَةِ إِلَى الجُمُعَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَتِ البُيُوتُ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ المَوَاشِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ عَلَى ظُهُورِ الجِبَالِ وَالآكَامِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَانْجَابَتْ عَنِ المَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ . رَوَاهُ البخاريُّ ومسلِمٌ .
قَالَ ابنُ عبدِ البَرِّ : وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى الدُّعَاءِ فِي الاسْتِصْحَاءِ عِنْدَ تَوَالِ الْغَيْثِ ، كَمَا يُسْتَسْقَى عِنْدَ احْتِبَاسِهِ .

وَيَنْبَغِي لِمَنِ اسْتَصَحَا أَنْ لا يَدْعُوَ فِي رَفْعِ الْغَيْثِ جُمْلَةً ، وَلَكِنِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وَمَا أَدَّبَ بِهِ أُمَّتَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا " ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " مَنَابِتَ الشَّجَرِ وَبُطُونَ الأَوْدِيَةِ " يَعْنِي : حَيْثُ لا يُخْشَى هَدْمُ بَيْتٍ وَلا هَلاكُ حَيَوَانٍ وَلا نَبَاتٍ . اهـ .
وقَالَ ابنُ بَطّالٍ : فيه الدُّعاءُ إلى اللهِ فِي الاسْتِصْحَاءِ كما يُدعى في الاستسقاءِ؛ لأنَّ كُلَّ ذلِكَ بَلاءٌ يُفزَعُ إلى اللهِ في كَشْفِهِ، وَقَدْ سَمّى اللهُ كَثْرةَ المطَرِ أذىً ، فقَالَ: (إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ) . اهـ

وقَالَ الإمامُ الشافعيُّ : وَإِذَا خَافَ النَّاسُ غَرَقًا مِنْ سَيْلٍ أَوْ نَهْرٍ دَعَوْا اللَّهَ بِكَفِّ الضَّرَرِ عَنْهُمْ كَمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفِّ الضَّرَرِ عَنْ الْبُيُوتِ أَنْ تَهَدَّمَتْ، وَكَذَلِكَ يَدْعُو بِكَفِّ الضَّرَرِ مِنَ الْمَطَرِ عَنِ الْمَنَازِلِ، وَأَنْ يُجْعَلَ حَيْثُ يَنْفَعُ، وَلا يَضُرُّ الْبُيُوتَ مِنْ الشَّجَرِ وَالْجِبَالِ وَالصَّحَارِيِ إذَا دَعَا بِكَفِّ الضَّرَرِ . اهـ .

أيُّها المؤمنونَ :
الْمَطَرُ رَحْمَةٌ وَرِزْقٌ ..
كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي سَفَرٍ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَصَابَتْهُمُ السَّمَاءُ بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَظُلْمَةٍ وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ، حَتَّى فَزِعُوا لِذَلِكَ، وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَضْحَكُ ! فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا عُمَرُ؟ أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ آثَارُ رَحْمَتِهِ فِيهِ شَدَائِدُ مَا تَرَى ، فَكَيْفَ بِآثَارِ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ ؟!

نَعوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِهِ وأليمِ عِقَابِهِ ، ومِنْ جَميعِ سَخَطِهِ .

إضافة رد

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
خُطبة جُمعة عن .. (الإنصاف) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 15-11-2015 01:24 PM
خُطبة جُمعة عن .. ( التحذير من نشر الأكاذيب) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 14-11-2015 11:57 AM
خُطبة جُمعة عن .. (خطر النفاق) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 06-10-2015 07:57 PM
خُطبة جُمعة .. عن الوَرَع نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 03-04-2015 08:06 AM
خُطبة جُمعة .. عن (الإحسان) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 03-01-2015 08:22 AM

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 08:01 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, by Sherif Youssef

يُشْترَطُ فِي حَالِ نَقْلِ الفَتَاوَى مِنْ مُنْتَدَياتِ الإرْشَادِ ذِكْرُ اِسْمِ فَضَيلةِ الشَيْخِ عَبْدِ الرَحمنِ السُحَيْمِ أَوْ ذِكْرُ اسْمِ المُنْتَدى