العودة   منتديات الإرشاد للفتاوى الشرعية فتاوى الإرشاد قسـم المقـالات والـدروس والخُطب قسم الخُطب المنبرية
منوعات المجموعات مشاركات اليوم البحث

إضافة رد
   
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع

نسمات الفجر
الصورة الرمزية نسمات الفجر

الهيئـة الإداريـة


رقم العضوية : 19
الإنتساب : Feb 2010
الدولة : السعودية
المشاركات : 3,356
بمعدل : 0.65 يوميا

نسمات الفجر غير متواجد حالياً عرض البوم صور نسمات الفجر


  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : قسم الخُطب المنبرية
افتراضي خُطبة عن (آفاتٍ في النفوس)
قديم بتاريخ : 17-03-2015 الساعة : 05:15 AM

الحمدُ للهِ الذِيْ أَنْزَلَ كِتَابَهُ تَذْكِرةً لأصْحَابِ الْخَشيةِ

قَالَ ابنُ كَثيرٍ في قولِهِ تَعَالى : (إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) : إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَبَعَثَ رُسُلَهُ رَحْمَةً رَحِمَ بِهَا الْعِبَادَ ، لِيَتَذَكَّرَ ذَاكِرٌ ، وَيَنْتَفِعَ رَجُلٌ بِمَا سَمِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ حَلالَهُ وَحَرَامَه . اهـ .

أيُّها المؤمِنونَ
الْمُؤمِنُ مَنْ يُحسِنُ الظنَّ بِربِّهِ ، ويُحسِنُ الظَنَّ بالمسلمينَ ، مَا لمْ يَظْهِرْ لَهُ مِنْ بَعْضِهِمْ خِلافَ ذَلِكَ .
والعَاقِلُ مَنْ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ عَلَى الدَّوامِ ، ويَلْتَمِسُ لإخوانِهِ الأعذارَ ..
أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَأَى رَجُلا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ : أَسَرَقْتَ ؟ قَالَ : كَلاّ وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ ، فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي . رَوَاهُ البخاريُّ .

قَالَ ابنُ الجوزيِّ رَحِمَهُ اللهُ : في بيانِ تحريمِ الغيبةِ بِالقَلْبِ :
اعْلَمْ أنَّ غيبةَ القَلْبِ سُوءُ ظَـنِّهِ بِالمسلمين .
والظَنُّ مَا تَرْكَنُ إليه النَّفْسُ ويَميلُ إليه القَلْبُ . ولَيْسَ لَكَ أنْ تَظُنَّ بِالْمُسْلِمِ شَرًّا إلاَّ إذا انْكَشَفَ أَمْرٌ لا يَحْتَمِلُ التأويلَ ... وَمَتَى خَطَرَ لكَ خاطِرُ سوءٍ عَلَى مُسلِمٍ ، فَيَنْبَغِي أنْ تَزيدَ فِي مراعاتِهِ وَتَدْعُوَ لَهُ بِالخيرِ ، فإنَّ ذلِكَ يَغيظُ الشيطانَ ويَدْفَعُهُ عَنْكَ ، فَلا يُلْقِي إليكَ خَاطِرَ السوءِ خِيفةً مِنْ اشتغالِكَ بِالدُّعَاءِ والمراعَاةِ .
وإذا تَحققتَ هَفوةُ مُسلِمٍ، فَانْصَحَهُ في السِّرِ .
واعْلَمْ: أنَّ مِنْ ثَمَراتِ سُوءِ الظنِّ التَّجَسّسَ ، فَإنَّ القلبَ لا يقنَعُ بِالظَنَّ ، بَلْ يَطْلَبُ التحقيقَ فَيَشْتَغِلَ بالتَّجَسُسِ ، وذلِكَ مَنهيٌّ عَنْهُ، لأنَّهُ يُوصِلُ إلى هَتْكِ سِترِ الْمُسْلِمِ ، ولَوْ لم يَنكشِفْ لَكَ ، كَانَ قَلْبُكَ أسْلَمَ للمُسْلِمِ . اهـ .

ومِنْ آفاتِ النفوسِ : إخراجُ الغيبَةِ بِقَوالِبَ شَتّى ! وَتَحْسينُهَا وَتَزيينُهَا للنَّفْسِ لِتَكَونَ مُستساغَةً .
قَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : مِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ شَتَّى . تَارَةً فِي قَالَبِ دِيَانَةٍ وَصَلاحٍ ، فَيَقُولُ : لَيْسَ لِي عَادَةً أَنْ أَذْكُرَ أَحَدًا إلاَّ بِخَيْرِ وَلا أُحِبُّ الْغِيبَةَ وَلا الْكَذِبَ ؛ وَإِنَّمَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحْوَالِهِ . وَيَقُولُ : وَاَللَّهِ إنَّهُ مِسْكِينٌ أَوْ رَجُلٌ جَيِّدٌ ؛ وَلَكِنْ فِيهِ كَيْت وَكَيْت . وَرُبَّمَا يَقُولُ : دَعُونَا مِنْهُ ، اللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ ؛ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ اسْتِنْقَاصُهُ وَهَضْمٌ لِجَانِبِهِ .
وَيُخْرِجُونَ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ صَلاحٍ وَدِيَانَةٍ يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ كَمَا يُخَادِعُونَ مَخْلُوقًا ؛ وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْهُمْ أَلْوَانًا كَثِيرَةً مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْفَعُ غَيْرَهُ رِيَاءً فَيَرْفَعُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ : لَوْ دَعَوْتُ الْبَارِحَةَ فِي صَلاتِي لِفُلانٍ ؛ لَمَا بَلَغَنِي عَنْهُ كَيْت وَكَيْت ؛ لِيَرْفَعَ نَفْسَهُ وَيَضَعَهُ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ .
أَوْ يَقُولُ : فُلانٌ بَلِيدُ الذِّهْنِ قَلِيلُ الْفَهْمِ ؛ وَقَصْدُهُ مَدْحُ نَفْسِهِ وَإِثْبَاتُ مَعْرِفَتِهِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ الْحَسَدُ عَلَى الْغِيبَةِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَبِيحَيْنِ : الْغِيبَةِ وَالْحَسَدِ .
وَإِذَا أُثْنِي عَلَى شَخْصٍ أَزَالَ ذَلِكَ عَنْهُ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ تَنَقُّصِهِ فِي قَالَبِ دِينٍ وَصَلاحٍ أَوْ فِي قَالَبِ حَسَدٍ وَفُجُورٍ وَقَدْحٍ لِيُسْقِطَ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَالَبِ تمسْخُرٍ وَلَعِبٍ، لَيُضْحِكَ غَيْرَهُ بِاسْتِهْزَائِهِ وَمُحَاكَاتِهِ وَاسْتِصْغَارِ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَالَبِ التَّعَجُّبِ ، فَيَقُولُ : تَعَجَّبْتث مِنْ فُلانٍ كَيْفَ لا يَفْعَلُ كَيْت وَكَيْت ، وَمِنْ فُلانٍ كَيْفَ وَقَعَ مِنْهُ كَيْت وَكَيْت وَكَيْفَ فَعَلَ كَيْت وَكَيْت ؟ فَيُخْرِجُ اسْمَهُ فِي مَعْرِضِ تَعَجُّبِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الاغْتِمَامَ فَيَقُولُ : مِسْكِينٌ فُلانٌ غَمَّنِي مَا جَرَى لَهُ وَمَا تَمَّ لَهُ ، فَيَظُنُّ مَنْ يَسْمَعُهُ أَنَّهُ يَغْتَمُّ لَهُ وَيَتَأَسَّفُ ، وَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى التَّشَفِّي بِهِ ، وَلَوْ قَدَرَ لَزَادَ عَلَى مَا بِهِ ! وَرُبَّمَا يَذْكُرُهُ عِنْدَ أَعْدَائِهِ لِيَشْتَفُوا بِهِ .
وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ أَعْظَمِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْمُخَادَعَاتِ لِلَّهِ وَلِخَلْقِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الْغِيبَةَ فِي قَالَبِ غَضَبٍ وَإِنْكَارِ مُنْكَرٍ ! فَيُظْهِرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْيَاءَ مِنْ زَخَارِفِ الْقَوْلِ ، وَقَصْدُهُ غَيْرُ مَا أَظْهَرَ . اهـ .

ومتى نَظَرَ الإنسانُ إلى نَفسِهِ بِعَينِ التزكيةِ حَمَلَهُ ذلِكَ عَلَى تعييرِ الناسِ والشماتَةِ بِهِمْ .

قَالَ ابنُ رَجَبٍ : وَمَنْ أَخْرَجَ التعييرَ وأظْهَرَ السُّوءَ وأشَاعَهُ في قَالَبِ النُّصْحِ ، وَزَعْم أنَّهُ إنَّمَا يَحمِلُهُ عَلَى ذلِكَ العيوبُ ، إمَّا عَامًّا أو خَاصًّا ، وَكَانَ في البَاطِنِ إنَّمَا غَرَضُهُ التعييرُ والأذَى ؛ فَهُوَ مِنْ إخْوَانِ المنافقينَ الذين ذَمَّهُمْ اللهُ في كتابِهِ في مواضِعَ ، فإنَّ اللهَ تَعَالى ذمَّ مَنْ أَظْهَرَ فِعْلاً أو قَولاً حَسَنا وَأَرَادَ بِهِ التوصُّلَ إلى غَرَضٍ فَاسِدٍ يَقْصِدُهُ في البَاطِنِ ، وعَدَّ ذَلِكَ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ ...
فَهَذِهِ الْخِصَالُ خِصَالُ اليهودِ والْمَنَافقِينَ ، وَهُوَ أنْ يُظْهِرَ الإنسانُ في الظاهِرِ قَولاً أوْ فِعْلاً ، وهُوَ في الصورةِ التي ظَهَرَ عَلَيْهَا حَسَنٌ ، وَمَقْصُودُهُ بِذلِكَ التوصُّلُ إلى غَرَضٍ فَاسِدٍ . اهـ .

وَرُبْمَا أَخْرَجَ بَعْضُ النَّاسِ ذمَّ غَيْرِهِ والتَّشَفِّي منْهُ بِقَالَبِ النَّصِيحَةِ ، وَقَدْ يُخْرِجُها آخَرُونَ بِقَالَبِ النَّصْحِ لِلأُمَّةِ ، أَوْ بِقَالَبِ عِلْمِ الْجَرْحِ والتَّجْرِيحِ !

وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ حَيْثُ يَقُولُ: مَنْ تَحَقَّقَ بِالْعُبُودِيَّةِ نَظَرَ أَفْعَالَهُ بِعَيْنِ الرِّيَاءِ ، وَأَحْوَالَهُ بِعَيْنِ الدَّعْوَى ، وَأَقْوَالَهُ بِعَيْنِ الافْتِرَاءِ . وَكُلَّمَا عَظُمَ الْمَطْلُوبُ فِي قَلْبِكَ ، صَغُرَتْ نَفْسُكَ عِنْدَكَ ، وَتَضَاءَلَتِ الْقِيمَةُ الَّتِي تَبْذُلُهَا فِي تَحْصِيلِهِ . انتهى مِنْ " مدارجِ السالِكينَ " .

قَالَ ابنُ القيِّمِ : فِي التَّعْيِيرِ ضَرْبٌ خَفِيٌّ مِنَ الشَّمَاتَةِ بِالْمُعَيَّرِ .. ثُمَّ ذَكَرَ مَا جَاءَ في الحديثِ "لا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ، فَيَرَحِمَهُ اللهُ وَيَبْتَلِيَكَ " ثُمَّ قَالَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ : أَنَّ تَعْيِيرَكَ لأَخِيكَ بِذَنْبِهِ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنْ ذَنْبِهِ ، وَأَشَدُّ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَوْلَةِ الطَّاعَةِ ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَشُكْرِهَا ، وَالْمُنَادَاةِ عَلَيْهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الذَّنْبِ ، وَأَنَّ أَخَاكَ بَاءَ بِهِ ، وَلَعَلَّ كَسْرَتَهُ بِذَنْبِهِ ، وَمَا أَحْدَثَ لَهُ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالإِزْرَاءِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مَرَضِ الدَّعْوَى وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ ، وَوُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ نَاكِسَ الرَّأْسِ ، خَاشِعَ الطَّرْفِ ، مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ ؛ أَنْفَعُ لَهُ ، وَخَيْرٌ مِنْ صَوْلَةِ طَاعَتِكَ ، وَتَكَثُّرِكَ بِهَا وَالاعْتِدَادِ بِهَا ، وَالْمِنَّةِ عَلَى اللَّهِ وَخَلْقِهِ بِهَا ، فَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْعَاصِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ! وَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْمُدِلَّ مِنْ مَقْتِ اللَّهِ ، فَذَنْبٌ تَذِلُّ بِهِ لَدَيْهِ ، أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَةٍ تُدِلُّ بِهَا عَلَيْهِ ، وَإِنَّكَ أَنْ تَبِيتَ نَائِمًا وَتُصْبِحَ نَادِمًا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبِيتَ قَائِمًا وَتُصْبِحَ مُعْجَبًا ... وَإِنَّكَ إِنْ تَضْحَكْ وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبْكِيَ وَأَنْتَ مُدِلٌّ ، وَأَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ الْمُدِلِّينَ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَسْقَاهُ بِهَذَا الذَّنْبِ دَوَاءً اسْتَخْرَجَ بِهِ دَاءً قَاتِلاً هُوَ فِيكَ وَلا تَشْعُرُ. اهـ .


الثانية :
الْحَمدُ للهِ يَهدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) .

أمَّا بَعْدُ :

فَأُوصيِكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عزَّ وَجَلّ .

أيُّها المؤمِنونَ :
كُونُوا على حَذَرٍ مِنْ مَدَاخِلِ النفوسِ ومَزَالِقِها

قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: سُوءُ حَمْلِ الْغِنَى يُورِثُ مَرَحًا , وَسُوءُ حَمْلِ الْفَاقَةِ يَضَعُ الشَّرَفَ , وَالْحَسَدُ دَاءٌ لَيْسَ لَهُ شِفَاءٌ , وَالشَّمَاتَةُ تُعْقِبُ النَّدَامَةَ .

وحَذَارِ مِنَ الشَّمَاتَةِ بِإخوانِكُمْ ، فإن الشماتةَ داءٌ كامِنٌ في النفوس ، وعُقُوبَتُها مُعَجَّلَة .
لَمَّا رَكِبَ ابنَ سِيرينَ الدَّيْنُ وحُبِسَ بِهِ قَالَ: إنِّي أَعْرِفُ الذَّنْبَ الذِيْ أَصَابَنِي هَذَا . عَيَّرتُ رَجُلاً مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ فَقُلْتُ لَهُ: يَا مُفْلِس .

ورُبما عُوجِلَ الشامِتُ بِالعقوبةِ !
حَكَى أَبُو فَرْوَةَ أَنَّ " طَارِقًا " صَاحِبَ شُرْطَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ مَرَّ بِابْنِ شُبْرُمَةَ وَطَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ ، فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ :
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تَخُبُّ كَأَنَّهَا = سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيبٍ تَقَشَّعُ
اللَّهُمَّ لِي دِينِي وَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ . فَاسْتُعْمِلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ : أَتَذْكُرُ قَوْلَك يَوْمَ كَذَا إذْ مَرَّ بِك طَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنَّهُمْ يَجِدُونَ مِثْلَ أَبِيك وَلا يَجِدُ أَبُوك مِثْلَهُمْ . إنَّ أَبَاك أَكَلَ مِنْ حَلاوَتِهِمْ ، فَحَطَّ فِي أَهْوَائِهِمْ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ :
أَمَا تَرَى هَذَا الدَّيِّنَ الْفَاضِلَ كَيْفَ عُوجِلَ بِالتَّقْرِيعِ وَقُوبِلَ بِالتَّوْبِيخِ مِنْ أَخَصِّ ذَوِيهِ، وَلَعَلَّهُ مِنْ أَبَرِّ بَنِيهِ. فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ أَطْلَقُ مِنْهُ عَنَانًا، وَأَقْلَقُ مِنْهُ جَنَانًا . إذَا رَمَقَتْنَا أَعْيُنُ الْمُتَتَبِّعِينَ، وَتَنَاوَلَتْنَا أَلْسُنُ الْمُتَعَتِّبِينَ. هَلْ نَجِدُ غَيْرَ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مَلاذًا، وَسِوَى عِصْمَتِهِ مَعَاذًا ؟
قال ابنُ القيِّم : وَمن بَكَّتَ بُكِّتَ بِهِ ، وَمَن ضَحِكَ مِن النَّاسِ ضُحِكَ مِنْهُ ، وَمَن عَيَّرَ أَخَاهُ بِعَمَلٍ ابْتُلِيَ بِهِ وَلا بُدّ . اهـ .

ومَنْ فَتَّشَ عَنْ عُيوبِ النَّاسِ فُتِّشَ عَنْ عُيوبِهِ
روى الْجُرْجَانِيُّ أن أحمدَ بَنَ الحسنَ بنِ هارُون قال : أدْرَكْتُ بِهذِه البَلْدَةِ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ ، فَسَكَتُوا عن عيوبِ الناس ، فنُسيَتْ عُيُوبُهم .
قال ابن رجب :
وقد رُوي عن بعضِ السلف أنه قال : أدْرَكْتُ قَومًا لم يَكن لهم عيوب ، فَذَكَرُوا عيوبَ الناسِ ، فَذَكَرَ الناسُ لهم عُيوبا ، وأدْرَكْتُ قوما كانت لهم عيوب ، فَكَفُّوا عن عيوبِ الناسِ فنُسِيتْ عيوبُهم . اهـ .
قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ : قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ : " وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَحَسَّسُوا " هُمَا لَفْظَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْبَحْثُ وَالتَّطَلُّبُ لِمَعَايِبِ النَّاسِ وَمَسَاوِيهِمْ ، إِذَا غَابَتْ وَاسْتَتَرَتْ لَمْ يَحِلَّ لأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا وَلا يَكْشِفَ عَنْ خَبَرِهَا. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : وَمِنْهُ لا يَلِي أَحَدُكُمُ اسْتِمَاعَ مَا يَقُولُ فِيهِ أَخُوهُ ... وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْغِيبَةِ أَوْ أَشَدَّ مِنَ الغيبةِ ، قَالَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ : (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) ، فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَرَدَا جَمِيعًا بِأَحْكَامِ هَذَا الْمَعْنَى . وَهُوَ قَدِ اسْتُسْهِلَ فِي زَمَانِنَا ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا حَلَّ بِنَا . اهـ .

أيُّها المؤمِنونَ :
اسْتَثْنَى العلماءُ مِنْ ذَلِكَ : الولاةَ الظَّلَمَةَ والوُزراءَ الْخَوَنةَ ، ومَن ألْقَى جِلْبَابَ الحياءِ .
قَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ : مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلا غِيبَةَ فِيهِ .
وقَالَ الإمامُ أحْمَدُ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَة .

وَحَدَّثَ ثابِتٌ البَنانيُّ فقَالَ : كُنْتُ عِنْدَ الْحَسَنِ رَحِمَهُ الله ، فَقَامَ إليه سَائلٌ ضَريرُ البَصَرِ ، فقَالَ : تَصَدّقُوا عَلَى مَنْ لاَ قائدَ لَهُ يَقودُهُ ، ولا بَصَرَ يَهديِهِ . فقَالَ الحَسَنُ : ذَاكَ صَاحِبُ هَذِه الدُّارِ ! - وأَشَارَ إلى دَارِه خَلْفَهُ ، يَعْني عبدَ اللهِ بِنَ زيادٍ - مَا كَانَ مِنْ جَميعِ حَشَمِهُ قَائدٌ يَقودُهُ إلى خَيْرٍ ، ولا يُشِيرُ عَلَيْهِ بِهِ ، وَلا كَانَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَهُ بَصَرٌ يُبْصِرُ بِهِ ويَنْتَفِعُ بِهِ . رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ في " الزُّهْدِ " .
ومِن هذا البابِ قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ عنِ الْحَجَّاجِ : لَوْ جاءتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِخبيثِهَا وجِئْنَا بالحجاجِ لَغَلَبْنَاهُمْ !
وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : إذا أَظْهَرَ الرَّجُلُ الْمُنْكَرَاتِ ، وَجَبَ الإنكارُ عَلَيْهِ عَلانيَةً ولَمْ يَبْقَ لَهُ غِيبةٌ ، ووَجَبَ أنْ يَعَاقَبَ عَلانِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ هَجْرٍ وَغَيرِهِ . اهـ .
قَالَ ابنُ مُفْلِحٍ : وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إنَّ الْمُظْهِرَ لِلْمُحَرَّمَاتِ تَجُوزُ غِيبَتُهُ بِلا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُخْتَارِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ : وَلا غِيبَةَ لِظَالِمٍ وَلا لِفَاسِقٍ . اهـ .
قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ: إذَا عُلِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْفُجُورُ أَنُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ ؟ قَالَ: لا ، بَلْ يُسْتَرُ عَلَيْهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ دَاعِيَةً . يَعني : إلى فُجُورِه .
قَالَ ابنُ مُفلِحٍ: وَيَتَوَجَّهُ أَنَّ فِي مَعْنَى الدَّاعِيَةِ: مَنْ اُشْتُهِرَ وَعُرِفَ بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَسَرَّ الْمَعْصِيَةَ . اهـ .

ولا يَعني أن يَسْتَرْسِلَ الإنسانُ في هذا البابِ ، فِإنَّ هَذَا الْمَهْيَعَ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ ، وَهُوَ وادٍ سَحِيقٌ ، قَالَ عَنْهُ ابنُ دَقيقٍ العِيدُ : أعراضُ المسلمينَ حُفْرةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ ، وَقَفَ عليها الْمُحَدِّثُون والْحُكَّام . اهـ .

استعيذوا باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِكِمْ ؛ فَقَدْ كَانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ في خُطَبِهِ : وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .
ومِنْ دُعائهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي .

اللهم قِنا شَرَّ وشُحَّ أنْفُسِنا .


إضافة رد

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
خُطبة جُمعة عن .. (غرس محبة الله في النفوس) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 28-11-2015 05:32 PM
خُطبة عن التوفيق عبد الرحمن السحيم قسم الخُطب المنبرية 0 08-08-2015 04:28 PM
خُطبة جُمعة .. عن (الإحسان) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 03-01-2015 08:22 AM
صحة قول (أن الله لم يخلق الإنسان ليعذبه ولن تخلد النفوس بالنار ) *المتفائله* قسـم الفقه العـام 0 21-03-2010 11:25 PM
قوله تعالى : ( وإذا النفوس زوّجت ) .. هل يعني أن أهل النار يَتزاوجون ؟ ناصرة السنة قسم القـرآن وعلـومه 0 19-03-2010 07:12 PM


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 11:38 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, by Sherif Youssef

يُشْترَطُ فِي حَالِ نَقْلِ الفَتَاوَى مِنْ مُنْتَدَياتِ الإرْشَادِ ذِكْرُ اِسْمِ فَضَيلةِ الشَيْخِ عَبْدِ الرَحمنِ السُحَيْمِ أَوْ ذِكْرُ اسْمِ المُنْتَدى