عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ , وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .
فيه مسائل :
1= هذا الحديث حقّه التقديم في الباب الذي قَبْله ، أو ما قَبْله ، إلاّ أن يكون المصنف رحمه الله قصَد ما جاء في أوّل الحديث من دُخول مكة عام الفتح .
2= تبويب المصنف رحمه يُقصد به كيفية دُخول مكة ، وهل يجوز دخولها من غير إحرام ؟
3= دخول النبي ﷺ لمكة وعلى رأسه المغْفَر ، هذا يعني أنه دَخَل حلالاً مِن غير إحرام .
4= جواز دُخول مكة مِن غير إحرام ، لأن العبرة بِعموم النص لا بخصوص السبب .
5= جَواز قَتْل المفسِد والجاني . وتقدّم ما في المسألة من كلام في حديث أبي شريح رضي الله عنه .
قال ابن عبد البر : كان هذا كُله مِن رسول الله ﷺ بمكة في الساعة التي حُلّت له من ذلك النهار ، ثم هي حَرَام إلى يوم القيامة . اهـ .
6= سبب قَتْل ابن خَطَل ؟
كان قد أسلَم وهاجر واستَكْتَبَه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كَفَر ولَحِق بِمكة .
وروى أنس أن ابن خَطل كان يَهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشِّعْر . وضعّف ذلك ابن عبد البر ؛ فقال : ولو كانت العِلّة في قَتْلِه ... ما تَرَك منهم مَن كان يَسبّه ، وما أظن أحدا منهم امتنع في حين كُفْرِه ومُحَارَبَته له مِن سَـبِّـه .
وذَكَر ابن عبد البر " أن ابن خَطَل كان قد قَتل رَجلا مِن الأنصار مُسلِما ثم ارتدّ كذلك . ذكر أهل السير وهذا يُبِيح دَمَه عند الجميع " .
قال : أما قَتْل عبد الله بن خَطَل فلأن رسول الله ﷺ قد كان عَهد فيه أن يَقْتَل وإن وُجد مُتعلقا بأستار الكعبة ؛ لأنه ارتدّ بعد إسلامه ، وكَفر بعد إيمانه ، وبعد قراءته القرآن ، وقتل النفس التي حرّم الله ، ثم لحق بدار الكفر بمكة ، واتخذ قَينتين يُغنيانه بهجاء النبي ﷺ . اهـ .
فلهذه الأسباب أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بِقتله ولو كان مُتعلِّقا بأسْتَار الكعبة .
ونَقل عن ابن إسحاق قوله : وإنما أمَر رسول الله ﷺ بِقَتْلِه ؛ لأنه بَعثه مُصَّدِّقا ، وكان مسلما ، وبعث معه رجلا من الأنصار ، وكان معه مولى له يخدمه ، وكان مسلما ، فَنَزَل ابن خَطَل مَنْزِلاً وأمر المولى أن يَذبح له تَيسًا ، ويصَنع له طعاما ، فنَام واستيقظ ولم يصنع له شيئا ، فعَدَا عليه فَقَتله ، ثم ارتدّ مُشْرِكا . اهـ .
8= فإن قيل : في حديث أنس – حديث الباب – ذَكَر ابن خَطل ، وفي حديث سَعْدٍ هذا ذَكَر أربعة رِجال وَامْرَأَتَيْن . فكيف يُجمع بينهما ؟
يُقال : كُلّ حدّث بِما سَمِع ، فلعل أنسًا رضي الله عنه سمِع الأمر بِقَتل ابن خَطل ، وسَعد سمع الأمر بِقَتل الأربعة والمرأتين .
9= اسْتَدَلّ به من يرى حتمية قَتْل من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم .
ومَنَع منه ابن عبد البر ؛ لأن القياس لا يَصح . حيث قال : وهذا لا يجوز عند أحدٍ علمته مِن العلماء أن يَقيس الذّمّي على الحربي ؛ لأن ابن خَطل في دار حرب كان ولا ذِمّة له ، وقد حَكم الله عزّ وجلّ في الحربي إذا قَدَر عليه بِتَخَيُّر الإمام فيه ، إن شاء َقَتله ، وإن شاء مَنّ عليه ، وإن شاء فَدى به ، فلهذا قَتَل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خَطل وغيره ممن أراد منهم قَتْله . اهـ .
قال ابن عبد البر : وقد اختلف الفقهاء في الذي يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ذَكَر الخلاف ، فليُراجَع في " التمهيد " . وفي " اقتضاء الصراط المستقيم " لابن تيمية بسْط للمسألة .
10= الْمِغْفَر : ما يُلبس على الرأس لِوِقَايته في الحرب . وتُسمّى " الْخُوذة " .
قال أبو عُبيد : سُمّي الْمِغْفَر لأنه يَغفر الرأس - أي : يَلبسه ويُغطيه .
وقال ابن الأثير : هو ما يَلْبَسُه الدَّارِعُ على رأسِه مِن الزَّرَدِ ونَحوه .
11= وفي حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ . رواه مسلم . وفي رواية له : وعليه عمامة سوداء بغير إحرام . وَفِي رِوَايَة : خَطَبَ النَّاس وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء .
فكيف الْجَمْع بينهما : عليه عمامة ، وعليه الْمِغْفَر ؟
قَالَ الْقَاضِي : وَجْه الْجَمْع بَيْنهمَا : أَنَّ أَوَّل دُخُوله كَانَ عَلَى رَأْسه الْمِغْفَر ، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كَانَ عَلَى رَأْسه الْعِمَامَة بَعْد إِزَالَة الْمِغْفَر ، بِدَلِيلِ قَوْله : " خَطَبَ النَّاس وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء " ؛ لأَنَّ الْخُطْبَة إِنَّمَا كَانَتْ عِنْد بَاب الْكَعْبَة بَعْد تَمَام فَتْح مَكَّة . ذَكَره النووي .
وقال ابن عبد البر : قد يُمكن أن يكون على رأسه عمامة سوداء وعليها الْمِغْفَر ، فلا يَتعارَض الحديثان . اهـ .
والقول الأول أقوى ، فقد جاء في حديث أنس : " وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، فَلَمَّا نَزَعَهُ ..." ، فهذا يدلّ على أنه لَبِس الْمِغْفَر أوّلاً ثم نَزَعه .
12= جواز التمسّك بأستار الكعبة دون التّمَسّح بها ، وفَرْق بين الأمرين :
أما التمسّك بأستار الكعبة ، فهو كَحَال المستجير بِمن يخافه ، فيُمسك بأطراف أثوابه ، وكان التّعلّق معروفا ، وهو يدلّ على اللجوء والاستعاذة بالله .
ويدلّ عليه ما في هذا الحديث ؛ لأنه لو كان يُمنع مِن التمسّك بأستار الكعبة ، لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
وأما التمسّح بها طلبا للبَرَكَة ، فلا يَصحّ ؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد مِن أصحابه التمسّح به ، والـتَّبَرّك دِيانة وتعبّد ، والعبادة مَبْناها على التوقيف على النصّ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولَمّا كانت الكعبة بيت الله الذي يُدْعَى ويُذكَر عنده ، فإنه سبحانه يُستجَار به هناك ، وقد يُسْتَمْسَك بِأستار الكعبة . اهـ .