عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ . فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ . فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّهَا حَائِضٌ . قَالَ : أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ . قَالَ : اُخْرُجُوا .
وَفِي لَفْظٍ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : عَقْرَى ، حَلْقَى . أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ . قَالَ : فَانْفِرِي .
فيه مسائل :
1= قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " يعني في حجة الوداع .
2= " فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ " أي : طُفْنَا طواف الإفاضة ، وهو رُكن من أركان الحج . والسنة تعجيله يوم العيد لِمن يَخْشَى أن يَعرِض له عارِض .
3= " فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ " أي : بعد طواف الإفاضة .
ففي رواية للبخاري : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاضَتْ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ قَالُوا : إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ قَالَ : فَلا إِذًا .
وفي رواية لمسلم : فقلت : يا رسول الله ، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ، ثم حاضت بعد الإفاضة.
وفي رواية له : طَمِثَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ طَاهِرًا .
فيُطلق على الحيض : حيض وطَمث ونفاس .
ففي هذه الرواية : طَمِثَتْ صَفِيَّةُ .
وفي حديث عائشة : ما لك أنَفِسْت .
4= جواز التلميح بِحاجة الرجل إلى أهله .
قال الحافظ العراقي : لعل الرواية التي فيها إرادة الوقاع وَهْم ، ولم أقف عليها في صحيح البخاري ، ففي ذِكْر عبد الغني المقدسي لها في العمدة نَظَر . اهـ .
والرواية في الصحيحين ؛ فقد رواها البخاري في بَاب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ . بلفظ : فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ .
ورواها مسلم بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد مِن صفية بعض ما يُريد الرجل مِن أهله .
5= " أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ " استفهام ، وهو محمول على لو لم تَطُف طواف الإفاضة .
وفيه إشكال : كيف يُريدها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يقول : أَحَابِسَتُنَا هِي ؟ فإن المرأة لا تَحِلّ لزوجها ما لم تطُف طواف الإفاضة ، وترمي جمرة العقبة وتُقصّر مِن شعرها ؟
قال الحافظ العراقي : هذه الرواية مُشْكِلة ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن عَلِم بأنها طافت طواف الإفاضة ، كما اتفقت عليه سائر الروايات ، فكيف يُريد وقاعها وحُكم الإحرام في حقها بالنسبة إلى الوقاع باقٍ قبل الطواف ؟
وجوابه : أنه عليه الصلاة والسلام ظن أنها طاهرة ، وأنها طافت طواف الإفاضة ، فلما تبين له أنها حائض توهّم حينئذ أنها لم تَطُف طواف الإفاضة ، فما حَدَث له هذا التوهّم إلاَّ بعد علمه بأنها حائض ، فلم يجتمع إرادة الوقاع وتَوَهَّم عَدَم الطواف في زمن واحد . اهـ .
وقال ابن حجر : وهذا مشكل ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إن كان عَلِم أنها طافت طواف الإفاضة ، فكيف يقول : أحابستنا هي ؟ وإن كان ما عَلم فكيف يُريد وقاعها قبل التحلل الثاني ؟ ويُجاب عنه : بأنه صلى الله عليه وسلم ما أراد ذلك منها إلاَّ بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة ، فأذِن لهن ، فكان بَانِيًا على أنها قد حَلَّت ، فلما قيل له إنها حائض جَوَّز أن يكون وَقَع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة ، فاستفهم عن ذلك فأعلَمَتْه عائشة أنها طافت معهن ، فزال عنه ما خشيه مِن ذلك . اهـ.
ويدل عليه قول عَائِشَةَ رضي الله عنها لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ طَافَتْ مَعَكُنَّ بِالْبَيْتِ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : فَاخْرُجْنَ . رواه البخاري ومسلم .
ويُشكل على هذا ما جاء في رواية في الصحيحين عن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ فَرَأَى صَفِيَّةَ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً ؛ لأَنَّهَا حَاضَتْ ، فَقَالَ : عَقْرَى حَلْقَى - لُغَةٌ لِقُرَيْشٍ - إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا ، ثُمَّ قَالَ : أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ يَعْنِي الطَّوَافَ . قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَانْفِرِي إِذًا .
وهذا محمول على أنها ظنّت وُجوب طواف الوداع ، فكانت حَزِينة لأجل ذلك .
6= " أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ " : يعني : طافتْ طواف الإفاضة . ويوم النحر : هو يوم العيد . وسُمّي كذلك لِكثرة ما يُنْحَر فيه مِن الهدي .
7= " اُخْرُجُوا " هو بمعنى الرواية الثانية: " فَانْفِرِي " ، إلاّ أن الرواية ألأولى عامة لِنسائه صلى الله عليه وسلم ، والثانية خاصة بِصفية رضي الله عنها .
قال الحافظ العراقي : يُحتمل أنه أمْر إباحة ، ويحتمل أنه أمْر إيجاب ، لا لأجل النسك ، بل لِحَقِّه عليه الصلاة والسلام في كونها زوجته . اهـ .
ويُحمَل على أنه أمْر إباحة . ففي بعض الروايات : فَاخْرُجْنَ . وفي بعضها : قَالَ : لا بَأْسَ ، انْفِرِي .
8= " عَقْرَى , حَلْقَى " معناه الدعاء بالعَقْر والْحَلْق . ولا يُراد ظاهِره .
ومعنى " عَقْرَى " أي : عَقَرها الله ، أي : جَرَحها . وقيل : جَعَلها عاقرا لا تَلِد .
ومعنى " حَلْقَى " أي : حَلَق شعرها . وقيل : أي : أصابه وَجَع في حَلْقِه .
قَالَ أَبُو عُبَيْد : مَعْنَى ( عَقْرَى ) عَقَرَهَا اللَّه تَعَالَى ، وَ ( حَلْقَى ) حَلَقَهَا اللَّه . قَالَ : يَعْنِي عَقَرَ اللَّه جَسَدهَا، وَأَصَابَهَا بِوَجَعٍ فِي حَلْقهَا . نَقَله النووي .
9= فيه دليل على أن طواف الإفاضة رُكن مِن أركان الحج ، وأنه لا يسقط عن الحائض ولا عن غيرها ؛ لأن الحائض تحبس رفقتها حتى تطوف طواف الإفاضة .
قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن تمام الحج الوقوف بِعَرفة ، والطواف بالبيت ، طواف الإفاضة . اهـ .
وقال النووي : وقت هذا الطواف مِن نِصف ليلة النحر ويبقى إلى آخر العمر ، ولا يزال محرما حتى يأتي به . اهـ .