شرح عمدة الأحكام - الحديث الـ 250 في الدعاء للمُحَلِّقِين رُؤوسَهم
بتاريخ : 26-08-2018 الساعة : 05:09 AM
الحديث الـ 250 في الدعاء للمُحَلِّقِين رُؤوسَهم
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ .
فيه مسائل :
1= اخْتُلِف في هذا الحديث على مسائل فيه :
أ – هل كان يوم الحديبية أم في حجة الوداع ؟
ب – هل حُكمه باقٍ أو هو واقعة عين لا عموم لها ؟
جـ - هل دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلِّقِين مرتين أو ثلاثا ؟
د – هل دعا للمحلِّقين بالرحمة أو بالمغفرة ؟ وما الفرق بينهما ؟
أما المسألة الأولى ؛ ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما : حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَصَّرَ آخَرُونَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ . قَالُوا : فَمَا بَالُ الْمُحَلِّقِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ظَاهَرْتَ لَهُمْ الرَّحْمَةَ ؟ قَالَ : لَمْ يَشُكُّوا . رواه الإمام أحمد . ورواه ابن ماجه مختَصرا . وفي رواية ابن ماجه : قيل : يا رسول الله لم ظاهرتَ للمحلقين ثلاثا والمقصرين واحدة ؟ قال : إنهم لم يَشُكُّوا . وصححه الألباني والأرنؤوط .
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أحْرم وأصحابه عام الحديبية غير عثمان وأبي قتادة، فاستغفر للمُحَلِّقين ثلاثا ، وللمقصرين مرة . رواه الإمام أحمد .
فهذا الحديث صريح في أنه كان يوم الحديبية ، وفي ذلك اليوم تأخّر الصحابة رضي الله عنهم عن الْحَلْق رغبة في أداء العمرة ، حتى أشارتْ أم سلمة رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج ويدعو حالِقَه ، فيحلقه ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورتها رضي الله عنها ، فخرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُكلّمْ أحدًا منهم حتى فعل ذلك : نحرَ بُدْنَهُ ودَعا حالِقَهُ فحلَقَه ، فلما رأَوا ذَلكَ قاموا فَنَحروا ، وجَعلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا ، حتى كادَ بعضُهم يَقتُلُ بعضًا غَمًّا . كما في صحيح البخاري .
قال ابن عبد البر : أما حديث ابن عمر هذا فليس فيه ذِكر الموضع الذي كان من رسول الله هذا القول . وهو محفوظ مِن حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة والْمِسْوَر بن مَخْرَمة أن رسول الله قال ذلك يوم الحديبية . اهـ .
وقال : والمحفوظ في هذا الحديث أن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمُقَصّرين مرّة إنما جَرى يوم الحديبية حين صُدّ عن البيت ، فَنَحَر وحَلَق ودَعا للمُحَلِّقِين . اهـ .
وفي حديث يحيى بن الحصين عن جدته أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع دعا للمُحَلِّقِين ثلاثا . رواه مسلم . وقال : وَلَمْ يَقُلْ وَكِيعٌ : فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ .
ويُسْتَرْوَح مِن صَنيع الإمام البخاري أنه كان في حجة الوداع ، وقد يُحمَل على تكرار الدعاء .
قال القاضي عياض : فَلا يَبْعُد أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . اهـ .
وأما الثانية ؛ فإن الْحَلْق أفضل ، لِقيام أدلة أخرى ، وسيأتي مزيد تفصيل حول التفضيل .
وأما الثالثة ؛ فقد قال البخاري عقب روايته للحديث : وَقَالَ اللَّيْثُ : حَدَّثَنِي نَافِعٌ : رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ . قَالَ : وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ : حَدَّثَنِي نَافِعٌ وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ : وَالْمُقَصِّرِينَ .
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : وَلِلْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : وَلِلْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَهَا ثَلاثًا . قَالَ : وَلِلْمُقَصِّرِينَ . رواه البخاري .
وفي رواية لمسلم : قال : رَحِم الله الْمُحَلّقِين . قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : رَحِم الله الْمُحَلّقِين . قالوا: والْمُقَصَرّين يا رسول الله ؟ قال : رَحِم الله الْمُحَلّقِين . قالوا : والْمُقَصَرّين يا رسول الله ؟ قال : والْمُقَصَرّين . فلما كانت الرابعة قال : والْمُقَصَرّين .
وأما الرابعة ؛ هل دعا للمُحلِّقين بالرحمة أو بالمغفرة ؟ وما الفَرْق بينهما ؟
ففي حديث الباب – حديث ابن عمر – وحديث ابن عباس رضي الله عنهم ؛ أنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالرحمة .
وفي حديث أبي هريرة أنه دعا لهم بالمغفرة ، وفي حديث أبي سعيد أنه استغفر لهم .
والجواب عن ذلك :
أنه إما أن يكون دعا لهم بالأمرين في موضعين ، إذا حُمِل ذلك على تكرار الواقعة في الحديبية وفي حجة الوداع ، كما تقدّم .
وإما أن يكون دعا لهم بالرحمة ، ويَكون مَن ذَكَر الاستغفار ذَكَرَه بالمعنى .
وأما الفَرق بينهما ؛ فقد قال القرطبي : المغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة .
ونَقَل عن ابن فارس قوله : ورحمة الله لعباده : إنعامه عليهم وعفوه لهم . اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : العفو متضمن لإسقاط حقه قِبَلِهم ومُسامحتهم به .
والمغفرة متضمنة لوقايتهم شرّ ذنوبهم وإقباله عليهم ورضاه عنهم ؛ بخلاف العفو المجرّد ، فإن العافي قد يَعفو ولا يُقْبِل على مَن عَفا عنه ، ولا يرضى عنه ؛ فالعفو تَرْك مَحض ، والمغفرة إحسان وفضل وجُود ، والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان والعطف والبر ؛ فالثلاثة تتضمن النجاة مِن الشرّ والفوز بالخير .
2= إذا قيل بأن الْحَلْق أفضل ، فلأدلّة أخرى ، منها :
فعله عليه الصلاة والسلام ، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قَال : حَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ . رواه البخاري .
ولأنه أبلغ في قضاء التفَث ، كما قال تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : الـتَّفَث: حَلْق الرأس ، وأخذ مِن الشاربين ، ونَتف الإبط ، وحلق العانة ، وقصّ الأظفار .
وقال مجاهد : حَلْق الرأس ، وحلق العانة ، وقصر الأظفار ، وقصّ الشارب .
قال البغوي في تفسيره : الـتَّفَث : الوسخ والقذارة مِن طول الشعر والأظافر والشعث ، تقول العرب لمن تستقذره : ما أتْفَثَك : أي : ما أوْسَخَك . والحاج أشعث أغبر ، لم يحلق شعره ولم يُقَلِّم ظُفره . فقضاء التفث : إزالة هذه الأشياء ، ليقضوا تفثهم ، أي : ليزيلوا أدرانهم ، والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق ، وقص الشارب ، ونتف الإبط ، والاستحدا ، وقَلْم الأظفار ، ولبس الثياب . اهـ .
ولكونه مُذهِب للزِّينَة ، كما قال ابن بطال .
قال ابن دقيق العيد : الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ مَعًا . وَعَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ . اهـ .
ولكون الْحَلْق قد تضمّن مَزيد عمل ومَشقّة .
وليست كل مشقّة متضمنة لمزيد من الأجر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : " الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ " لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ عَلَى الإِطْلاق ... وَلَوْ قِيلَ : " الأَجْرُ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَفَائِدَتِهِ" ، لَكَانَ صَحِيحًا . اهـ .
وأما ما قاله القرطبي : قال علماؤنا : ففي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلِّقِين ثلاثا وللمقَصِّرين مرة ، دليل على أن الْحَلْق في الحج والعمرة أفضل مِن التقصير، وهو مقتضى قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ) . الآية، ولم يَقُل تُقَصِّرُوا . اهـ .
فإنه مُتعقّب بأمرين :
الأول : أن الْحَلْق أبلغ من التقصير ، وهو في شأن النهي عن الْحَلْق ، والنهي عن الْحَلْق أبلغ ؛ فهو مُتضمّن للنهي عن الحلق والتقصير مِن باب أوْلى .
الثاني : أن الله ذَكَر الأمْرَين معا في مقام الامتنان ، وذلك في قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) .
3= الأفضل كون الْحَلْق بعد رمي جمرة العقبة وبعد الذبح لِمن كان له هدي .
قال النووي : اتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الأَفْضَل فِي الْحَلْق وَالتَّقْصِير أَنْ يَكُون بَعْد رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة وَبَعْد ذَبْح الْهَدْي إِنْ كَانَ مَعَهُ ، وَقَبْل طَوَاف الإِفَاضَة ، وَسَوَاء كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا . اهـ .
4= الْحَلْق خاص بالرجال دون النساء .
قال ابن عبد البر : وقد أجمع العلماء على أن النساء لا يَحْلِقْن ، وأن سُنَّتهن التقصير . اهـ .
5= " فيه دليل على الترحّم على الحي وعدم اختصاصه بالميت " . قاله العظيم آبادي في " عون المعبود "
6= جواز الْحَلْق في غير الـنُّسُك ، إلاّ أن يكون شِعارًا لأهل البِدَع .
قال القرطبي : لا خلاف أن حَلق الرأس في الحج نُسُك مندوب إليه ، وفي غير الحج جائز، خلافا لمن قال: إنه مُثْلَة ، ولو كان مُثلة ما جاز في الحج ولا غيره ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن الْمُثْلَة ، وقد حَلَق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام ، ولو لم يَجُز الحلق ما حَلقهم .
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يَحلق رأسه .
قال ابن عبد البر : وقد أجمع العلماء على حَبس الشعر ، وعلى إباحة الحلق . وكَفى بهذا حُجّة ، وبالله التوفيق . اهـ .