شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الحادي والعشرون
الحديث الحادي والعشرون:
عن عائشة قالت : دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما – على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدري ، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به ، فأبدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره ، فأخذت السواك فقضمته وطيبته ، ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستن به ، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استن استنانا قط أحسن منه ، فما عدا أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده أو إصبعه ثم قال : في الرفيق الأعلى - ثلاثا - ثم قضى ، وكانت تقول : مات بين حاقنتي وذاقـنـتـي .
وفي لفظ : فرأيته ينظر إليه ، وعرفت أنه يُحب السواك ، فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه : أن نعم .
هذا لفظ البخاري ، ولمسلم نحوه .
روايات الحديث :
= في رواية للبخاري . قالت : دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن ، فأعطانيه ، فقصمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستن به وهو مستسند إلى صدري . وبوّب عليه الإمام البخاري بـ : باب من تسوك بسواك غيره .
= وفي رواية للبخاري أيضا : قالت : توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري ، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال : في الرفيق الأعلى . في الرفيق الأعلى . ومَـرّ عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فظننت أن له بها حاجة فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه ، فاستن بها كأحسن ما كان مستنا ، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده ، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة .
= وفي رواية له : فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيبته .
= هذا الحديث لم أجده في صحيح مسلم ، فليس في باب السواك .
وإنما أخرج مسلم في كتاب فضائل الصحابة عن عائشة قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول : أين أنا اليوم ؟ أين أنا غدا ؟ استبطاء ليوم عائشة . قالت : فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري .
وهذا اللفظ هو الذي أشار إليه من خرّج أحاديث العمدة .
وليس فيه ما يتعلق بالسواك .
مسائل الحديث :
= فضل عائشة – رضي الله عنها –
وتدلّ عليه رواية مسلم من أن النبي صلى الله عليه على آله وسلم كان يتحرّى يوم عائشة – رضي الله عنها – .
وقولها – رضي الله عنها – : فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة .
وموته صلى الله عليه على آله وسلم ورأسه بين سحرها ونحرها – أي على صدرها – .
تلمسها – رضي الله عنها – حاجة النبي صلى الله عليه على آله وسلم حيث قالت : فرأيته ينظر إليه ، وعرفت أنه يُحب السواك .
ذكاء عائشة – رضي الله عنها – قالت : فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه : أن نعم .
ففهمت مجرد الإشارة .
وهكذا ينبغي أن تكون الزوجات في حسن المعاشرة مع الأزواج .
تعرف ما يُريد زوجها ، وتعرف ما يُحب وما يكره ، وتتطلّب ما تتوق إليه نفسه .
والكلام في ذلك يطول .
وفضائل عائشة – رضي الله عنها – أشهر وأكثر من أن تُذكر .
فمن لم يرض بها أُمّـاً له لم يكن من المؤمنين لقوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ )
= عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما –
وفي هذا فضل لبيت أبي بكر وآله .
قال ابن الجوزي – رحمه الله – :
أربعة تناسلوا ، رأوا رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم : أبو قحافة ، وابنه أبو بكر ، وابنه عبد الرحمن ، وابنه محمد ويكنى أبا عتيق . انتهى .
وهذا لا يُعرف لغيرهم .
= جواز دخول أقارب الزوجة بيت الزوج إذا كان لا يكره ذلك ، وتقدّم مثل هذا في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – ، وهو الحديث الخامس عشر .
= تلطف الزوجة مع زوجها ، ووضعها يدها على محلّ الألم ، وتعويذه .
تدلّ عليه رواية البخاري : وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض .
ومثله الزوج أن يتلمّس مواضع الألم من زوجته ويحنو عليها ، ولهذا الفعل أثر نفسي أكثر من كونه أثر فعلي .
فالرجل إذا وضع يده على مكان الألم من زوجته كان له عظيم الأثر في نفس المرأة ! وإن لم يذهب الألم ، وإن بقي الداء ، لكنها تشعر أنه يُحسّ بها وبآلامها .
جاء في حديث أم زرع – المتفق عليه – أن إحدى عشرة امرأة جَـلَـسْـنَ ، فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا - فَذَكَرَتْ كل واحدة مثالب زوجها أو مناقبه - قالت السادسة : زوجي إن أكل لف ، وإن شرب اشتف ، وإن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البثّ .
قال ابن حجر : ( ولا يولج الكف ليعلم البث ) أي لا يَمُدّ يده ليعلم ما هي عليه من الحزن فيزيله ... والمراد بالبث الحزن ويقال شدة الحزن ، ويطلق البث أيضا على الشكوى ، وعلى المرض ، وعلى الأمر الذي لا يُصبر عليه ، فأرادت أنه لا يسأل عن الأمر الذي يقع اهتمامها به ، فوصفته بِـقِـلَّـةِ الشفقة عليها ، وأنه أن لو رآها عليلة لم يُدخل يده في ثوبـها ليتفقّد خبرها . انتهى .
فهي تعيبه بذلك !
فالمواساة بين الزوجين عند حلول كرب أو نزول مرض .
فالأول يدل عليه فعل خديجة – رضي الله عنها – مع رسول الله لما نزل الوحي أول ما نزل .
والثاني يدلّ عليه فعل عائشة – رضي الله عنها – كما تقدّم .
= قولها : ومع عبد الرحمن سواك رطب .
تقدّم الكلام على السِّواك ، ومن أي شيء يكون ؟
ولا شك أن الرطب أجود ، وهو أنواع أيضا .
وأجوده ما كان متوسطاً ، فلم يكن قاسياً يُدمي اللثة ، ولا رخواً لينا لا يفي بالغرض .
وقد جاء في رواية للبخاري : ومَـرّ عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة ، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فظننت أن له بها حاجة ، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها ، فدفعتها إليه .
والجريدة الرطبة محمولة على السواك ، أو السواك الرطب محمول على أنه من الجريد ، والعرب تستاك بالعسيب .
= يستنّ به . أي يستاك ، وتقدّم معنى الاستنان .
= قولها : فأبَـدّه بصره .
يعني ابتعه بصره ونظر إليه .
قال ابن حجر : وفي رواة : فأمـدّه
والمعنى واحد ، وهو من إتباع البصر وإطالته نحو الشيء .
= قولها : فقضمته . أي مضغته ، والقضم الأخذ بطرف الأسنان .
وفي رواية فقصمته : أي كسرته أو قطعته .
وقيل : القضم لليابس ، والخضم للرطب .
= وفيه فائدة قضم السواك المستعمل إذا أراد الإنسان استعمال سواك غيره .
وقضم سواكه بين فترة وأخرى ، خاصة إذا ضعف طرف السواك الذي يستاك به .
وفي رواية : فقضمته ونفضته وطيبته .
النفض : هو التحريك .
والتطييب : قيل فيه : الغسل ، وهو بعيد لأن عائشة – رضي الله عنها – كانت مُسندة النبي صلى الله عليه على آله وسلم على صدرها .
والصحيح أن التطييب هنا يُقصد به التنعيم والتليين .
= جواز الاستياك بسواك الغير من غير كراهة ، إلا أنه يغسله أو يقضم رأسه قبل أن يستاك به .
= إصلاح الزوجة السواك لزوجها .
= جواز العمل بالإشارة المُفهِمـة .
وقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يعملون بمقتضى الإشارة المُفهِمة .
ففي الصحيحين من حديث عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك ، فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا .
= قوله – عليه الصلاة والسلام – : في الرفيق الأعلى .
أي أنه اختار الموت على الحياة ، واختار الرفيق الأعلى .
قال القاضي عياض في معناها أربع تأويلات :
أحدها : أنه من أسماء الله ، وأنكره الأزهري لورود رواية " مع الرفيق الأعلى "
ثانيها : أنه جماعة الأنبياء ، يدلّ عليه قوله في الحديث الآخر : ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا )
ثالثها : أنه مُرتفق الجنة .
رابعها : أنه اسم لكل سماء .
والذي يترجّح الثاني من هذه الأقوال لدلالة الحديث الصحيح عليه .
= قولها – رضي الله عنها – : ثم قضى . أي مات .
= حرصه – عليه الصلاة والسلام –
على السُّـنّـة والتزامها وامتثالها حتى مات .
فقد حرص – عليه الصلاة والسلام – على السواك حتى مات .
= قولها – رضي الله عنها – : مات بين حاقنتي وذاقنتي
وفي الرواية الثانية : بين سحري ونحري
وفي رواية : وأنا مُسندته على صدري
المعنى واحد .
أي أنه صلى الله عليه على آله وسلم مات وهو مُسند رأسه على صدر عائشة – رضي الله عنها – .
والحاقنة : ما سفل من الذقن ، أو الحاقنة نقرة الترقوة ، إن الحاقنة المطمئن من الترقوة والحلق . وقيل غير ذلك .
والذاقنة : ما علا من الذقن ، وقيل : الذاقنة طرف الحلقوم .
والسَّحر : هو الصدر وهو في الأصل الرئة .
والنحر : المراد به موضع النحر .
أفاده ابن حجر – رحمه الله – .
= وفاته صلى الله عليه على آله وسلم كانت في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة .
وكان له صلى الله عليه على آله وسلم من العُمر يومئذ ثلاث وستون سنة على الصحيح .
فصلوات ربي وسلامه عليه أزكى صلاة ، وأتمّ تسليم .
أشهد أنه بلّغ الرسالة
وأدّى الأمانة
ونصح الأمة
وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك .
والله أعلم .
كتبه
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم