إلا أن الشطر الأول منه له شاهد من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوشك أحدكم أن يُكذبني وهو متكئ على أريكته يُحدّث بحديثي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإنّ ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه .
وهو يشهد لما رواه أبو يعلى .
وأما ما رواه الطبراني فقد انفرد به فيما رأيت ، وما ينفرد به الطبراني غالبا يحتاج إلى بحث ونظر .
وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، و تلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم ، وتنفر منه أشعاركم أبشاركم، و ترون أنه بعيد منكم ، فأنا أبعدكم منه . رواه الإمام أحمد .
وهذا ليس معناه دخول الذوق في مسألة تصحيح وتضعيف الأحاديث ، بل إن الحديث الصحيح له منار وعليه نور ، بخلاف الحديث الموضوع المكذوب فإن له وحشة وعليه ظُلمة .
ولذا قال ابن القيم رحمه الله :
وسُئلت هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده .
قال :
فهذا سؤال عظيم القدر ، وإنما يعلم ذلك من تضلّع في معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه وصار له فيها مَلَكَة ، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه فيما يأمر به وينهى عنه ، ويخبر عنه ، ويدعو إليه ، ويحبه ويكرهه ، ويشرّعه للأمة بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه ، فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وكلامه ، وما يجوز أن يخبر به ، وما لا يجوز ، ما لا يعرفه غيره ، وهذا شأن كل متبع مع متبوعه ، فإن للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح ما ليس لمن لا يكون كذلك ، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم ، والله أعلم . اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وليس كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه كل الناس ويفهمونه ، بل كثير منهم لم يسمع كثيراً منه ، وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده وإن كان كلامه في نفسه محكما مقرونا بما يبين مراده ، لكن أهل العلم يعلمون ما قاله ، ويُميّزون بين النقل الذي يصدّق به والنقل الذي يكذّب به ، ويعرفون ما يُعلم به معاني كلامه صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى أمر الرسول بالبلاغ المبين ، وهو أطوع الناس لربّه فلا بد أن يكون قد بلغ البلاغ المبين ، ومع البلاغ المبين لا يكون بيانه ملتبسا مدلّسا . اهـ .
ولا يُفهم من مجموع الأحاديث الواردة في التحديث والتشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تكذيب ما جاء به عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز رد ما لم يصح من الأحاديث .
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشدّدون في قبول الأخبار والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من باب الاحتياط في قبول الرواية ، وما ذلك إلا لتساهل الناس بالرواية حتى في زمن الصحابة رضي الله عنهم .
روى مسلم - في المقدمة - عن ابن عباس أنه قال : إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما إذ ركبتم كل صعب وذلول فهيهات .
وروى أيضا عن طاوس قال : جاء هذا إلى ابن عباس - يعني بشير بن كعب - فجعل يحدثه ، فقال له ابن عباس : عُـد لحديث كذا وكذا ، فعاد له ، ثم حدثه ، فقال له : عُـد لحديث كذا وكذا ، فعاد له . فقال له : ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا ؟ أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا ؟ فقال له ابن عباس : إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يُكذب عليه ، فلما ركب الناس الصعب والذّلول تركنا الحديث عنه .
وروى أيضا عن مجاهد قال : جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يُحدّث ويقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه . فقال : يا ابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي ؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع ؟ فقال ابن عباس : إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم ينفذ من الناس إلا ما نعرف .
وبُشير بن كعب هذا لم يكن من الوضّاعين ، فهو ثقة مُخضرم - أي أدرك زمن النبي صلى الله عليه على آله وسلم ، ولم يلقَـه .
وإنما أعرض عنه ابن عباس - رضي الله عنهما - لأنه كان يُكثر الرواية ، ويروي عن أهل الكتاب .
وكان أنس بن مالك إذا أراد أن يُحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير لونه ثم قال : أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا كلّه من الحرص على أن لا يُنسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس من كلامه ، أو يُقوّل ما لم يقُل .
ولذا راجع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم بعضهم الآخر في غير ما حديث
وعلى سبيل المثال :
قيل لابن عمر : إن أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من تبع جنازة فله قيراط من الأجر . فقال ابن عمر : أكثر علينا أبو هريرة ، فبعث إلى عائشة فسألها فصدّقت أبا هريرة ، فقال ابن عمر : لقد فرطنا في قراريط كثيرة . رواه البخاري ومسلم .
ومثله لما استأذن أبو موسى الأشعري على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يُؤذن له ، وكأنه كان مشغولا فرجع أبو موسى ، ففرغ عمر ، فقال : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ ائذنوا له . قيل : قد رجع ، فدعاه ، فقال : كنا نؤمر بذلك ، فقال : تأتيني على ذلك بالبينة ، فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم ، فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا ، أبو سعيد الخدري ، فذهب بأبي سعيد الخدري ، فقال عمر : أخفي هذا عليّ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألهاني الصفق بالأسواق يعني الخروج إلى تجارة . رواه البخاري ومسلم .
ولو كان يجب التصديق بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ورد عنه لما جاز للصحابة رضي الله عنهم أن يفعلوا ما فعلوا ، ولا أن يتثبّتوا .
والله أعلم .
وقد سبق بيان الحديث الموضوع وما يتعلق به
http://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?t=4421
المجيب الشيخ/ عبدالرحمن السحيم
عضو مكتب الدعوة والإرشاد