نسمات الفجر
الصورة الرمزية نسمات الفجر

الهيئـة الإداريـة


رقم العضوية : 19
الإنتساب : Feb 2010
الدولة : السعودية
المشاركات : 3,356
بمعدل : 0.65 يوميا

نسمات الفجر غير متواجد حالياً عرض البوم صور نسمات الفجر


  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : قسم الخُطب المنبرية
افتراضي خُطبة جُمعة (عن الأشهر الحُرُم)
قديم بتاريخ : 09-09-2014 الساعة : 10:54 PM

الْحَمدُ للهِ يُعظِّمُ ما شَاءَ مِنَ الأزمنةِ ، ويُفضِّلُ مَا شَاءَ مِنَ الأمِكِنةِ

أمَّا بعدُ :
فإنَّ أهلَ الحضارةِ الماديةِ وإنْ بَلَغُوا في الدنيا شأوا ، وارتفعوا شَأنا ، إلا أنَّهم لا زالُوا في حضيضِ العقولِ ، ووَحْلِ الأخلاقِ
ما قيمةُ الإنسانِ بِلا إيمانٍ
ومَا قيمةُ العقلِ إنْ لَمْ يرتقِ في مراتبِ العُلَى بَلْ يَنَحَطُّ في حضيضِ الجاهليةِ الأولى ، يُقَدِّسُ شَجَرا أوْ حَجَرا أوْ صَنَما
بَلْ مَا قُيمةُ العقلِ لا يَعرِفُ خَالِقا ، ولا يَدْرِكُ مَآلاً ؟
(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)
أكثرُ أَهْلِ المشرقِ يَعبدونَ صَنَما ، وأهل الغَرْبِ يَعبُدون بَشَرا .
وَصَدَقَ اللهُ : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) .
(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)

أيُّها المؤمنونَ
لا تَقومُ حياةُ الناسِ قِياما صَحَيحا تاما إلاّ بالشرائعِ والشعائرِ ، فإنَّ الإنسانَ بِلا شَريعةٍ ولا شَعِيرةٍ أضلُّ مِنْ بَهيمةِ الأنعامِ (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) .
وَلِذَا فَقَدْ جَعَلَ اللهُ قِيامَ حياةِ الناسِ بالشرائعِ والشعائرِ ، فَقَالَ عزَّ وَجَلّ : (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
قَالَ البغويُّ : (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا) أَيْ: قَوَامًا لَهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ؛ أَمَّا الدِّينُ لأَنَّ بِهِ يَقُومُ الْحَجُّ وَالْمَنَاسِكُ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فِيمَا يُجْبَى إِلَيْهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وكانوا يَأْمَنُونَ فيه مِنَ النَّهْبِ وَالْغَارَةِ ، فَلا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَحَدٌ فِي الْحَرَمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) . (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) أَرَادَ أَنَّهُ جَعَلَ الأَشْهُرَ الْحُرُمَ قِيَامًا لِلنَّاسِ يَأْمَنُونَ فِيهَا الْقِتَالَ . اهـ .

وقَالَ الرازيُّ في تفسيرِهِ : قَوْلُهُ (قِيَامًا لِلنَّاسِ) أَصْلُهُ قِوَامٌ ... وَهُوَ مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ الأَمْرُ وَيَصْلُحُ ..
ثم ذَكَرَ الرازيُّ أنَّ اللهَ " بَيَّنَ أَنَّ الْحَرَمَ كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لأَمْنِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ، فَكَذَلِكَ هُوَ سَبَبٌ لأَمْنِ النَّاسِ عَنِ الآفَاتِ وَالْمُخَافَاتِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ " .
قَالَ : ثُمَّ ذَكَرُوا هَاهُنَا فِي كَوْنِ الْكَعْبَةِ سَبَبًا لِقِوَامِ مَصَالِحِ النَّاسِ وُجُوهًا:
الأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى حُضُورِ أَهْلِ الآفَاقِ عِنْدَهُمْ لِيَشْتَرُوا مِنْهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ طُولَ السَّنَةِ ، فَإِنَّ مَكَّةَ بَلْدَةٌ ضَيِّقَةٌ لا ضَرْعَ فِيهَا وَلا زَرْعَ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فاللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ مُعَظَّمَةً فِي الْقُلُوبِ حَتَّى صَارَ أَهْلُ الدُّنْيَا رَاغِبِينَ فِي زِيَارَتِهَا، فَيُسَافِرُونَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لأَجْلِ التِّجَارَةِ ، وَيَأْتُونَ بجميعِ الْمَطالِبِ والْمُشتهياتِ، فَصَارَ ذَلِكَ سَببا لإسباغِ النِّعَمِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَقَاتَلُونَ وَيُغِيرُونَ إِلاَّ فِي الْحَرَمِ، فَكَانَ أَهْلُ الْحَرَمِ آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ ، حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ فِي الْحَرَمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَلَوْ جَنَى الرَّجُلُ أَعْظَمَ الْجِنَايَاتِ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ .
الثَّالِثُ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ صَارُوا بِسَبَبِ الْكَعْبَةِ أَهْلَ اللَّهِ وَخَاصَّتَهُ ، وَسَادَةَ الْخَلْقِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمْ وَيُعَظِّمُهُمْ .
الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِوَامًا لِلنَّاسِ فِي دِينِهِمْ بِسَبَبِ مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَنَاسِكِ الْعَظِيمَةِ وَالطَّاعَاتِ الشَّرِيفَةِ ، وَجَعَلَ تِلكَ المنَاسِكَ سببا لِحَطِّ الخطيآتِ ، وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَكَثْرَةِ الْكَرَامَاتِ ...

فَلَمَّا كَانَتِ الْكَعْبَةُ سَبَبًا لِحُصُولِ هَذِهِ الأَقْسَامِ الأَرْبَعَةِ، وَثَبَتَ أَنَّ قِوَامَ الْمَعِيشَةِ لَيْسَ إِلاّ بِهَذِهِ الأَرْبَعَةِ ثَبَتَ أَنَّ الْكَعْبَةَ سَبَبٌ لِقَوَامِ النَّاسِ .
ثم قَالَ الإمامُ الرازيُّ :
اعْلَمْ أَنَّ الآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ وَقِوَامِهِمْ.
الأَوَّلُ: الْكَعْبَةُ ، وَسَبَقَ مَعْنَى كَوْنِهَا سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ .
وَالثَّانِي: هُوَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي سَائِرِ الأَشْهُرِ، وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ زَالَ الْخَوْفُ وَقَدَرُوا عَلَى الأَسْفَارِ وَالتِّجَارَاتِ وَصَارُوا آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَانُوا يُحَصِّلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنَ الْأَقْوَاتِ مَا كَانَ يَكْفِيهِمْ طُولَ السَّنَةِ، فَلَوْلا حُرْمَةُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَهَلَكُوا وَتَفَانَوْا مِنَ الْجُوعِ وَالشِّدَّةِ فَكَانَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ سَبَبًا لِقِوَامِ مَعِيشَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا. فَهُوَ سَبَبٌ لاكْتِسَابِ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ إِقَامَةِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ الْهَدْيُ ، وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ ؛ لأَنَّ الْهَدْيَ مَا يُهْدَى إِلَى الْبَيْتِ وَيُذْبَحُ هُنَاكَ ، وَيُفَرَّقُ لَحْمُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ نُسُكًا لِلْمُهْدِي ، وَقِوَامًا لِمَعِيشَةِ الْفُقَرَاءِ .
وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَهُوَ الْقَلائِدُ، وَالْوَجْهُ فِي كَوْنِهَا قِيَامًا لِلنَّاسِ أَنَّ مَنْ قَصَدَ الْبَيْتَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ ، وَمَنْ قَصَدَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَمَعَهُ هَدْيٌ، وَقَدْ قَلَّدَهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْعَرَبِ يَلْقَى الْهَدْيَ مُقَلَّدًا ، وَيَمُوتُ مِنَ الْجُوعِ فَلا يَتَعَرَّضُ لَهُ الْبَتَّةَ . اهـ .
وقَالَ القرطبيُّ في تَفْسيرِهِ : وَالْمُرَادُ الأَشْهُرُ الأربعةُ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَرَّرَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ حُرْمَتَهَا، فَكَانُوا لا يُرَوِّعُونَ فِيهَا سِرْبًا- أَيْ نَفْسًا- وَلا يَطْلُبُونَ فِيهَا دَمًا ، وَلا يَتَوَقَّعُونَ فِيهَا ثَأْرًا ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ ، فَلا يُؤْذِيهِ. وَاقْتَطَعُوا فِيهَا ثُلُثَ الزَّمَانِ . وَوَصَلُوا مِنْهَا ثَلاثَةً مُتَوَالِيَةً، فُسْحَةً وَرَاحَةً وَمَجَالا لِلسِّيَاحَةِ فِي الأَمْنِ وَالاسْتِرَاحَةِ، وَجَعَلُوا مِنْهَا وَاحِدًا مُنْفَرِدًا فِي نِصْفِ الْعَامِ دَرْكًا لِلاحْتِرَامِ . اهـ .

وَبِهذَا يُعْلَمُ حَاجَةُ الناسِ إلى الشريعةِ والشعيرةِ .

أيُّها المؤمنونَ :
لَقَدْ عَظَّمَ اللهُ الأشهرَ الْحُرُمَ ، فقَالَ : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) .
قَالَ ابنُ عباسٍ : لا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ فِي كُلِّهِنَّ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حَرَمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ . رَوَاهُ ابنُ جريرٍ في تفسيرِهِ وابنُ أبي حاتِمٍ في تفسيرِهِ والبيهقيُّ في "الشُّعَبِ " .
وقَالَ قُتادةُ : الظُّلْمُ في الأشهُرِ الْحُرُمِ أعْظَمُ خطيئةً وَوِزرًا مِن الظُّلْمِ في سِواهَا .
قَالَ ابنُ جَرِيرٍ : وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَلا تَعْصُوا اللَّهَ فِيهَا، وَلا تُحِلُّوا فِيهِنَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَتكسبُوا أَنْفُسَكُمْ مَا لا قِبَلَ لَهَا بِهِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ . اهـ .
وقَالَ القرطبيُّ : لا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ . اهـ .

وَجَاءَ الأمْرُ بِتعظيمِ الْحَرَمِ والْحُرُماتِ ، فقَالَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا)

كَانَ القِتالُ في الأشْهُرِ الْحُرُمِ مُحرَّما ، ثُمَّ نُسِخَ إلى قِتالِ مَنْ قَاتَلَ فِيهِ ، كَمَا قَالَ عزَّ وَجَلّ : (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) .
قَالَ جابرٌ : لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلاّ أَنْ يُغْزَى - أَوْ يُغْزَوْا - فَإِذَا حَضَرَ ذَاكَ، أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ . رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ بإسنادٍ صحيحٍ .
ثم نُسِخَ ذَلِكَ بِقولِهِ تَعَالى : (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) .
وذَلِكَ قولُ جُمْهُورِ الْمُفسِّرِينَ ، وقَولُ فُقَهَاءِ الأمْصَارِ .

وَكَانَ لدى أهلِ الجاهليةِ بَقيَّةٌ مِنْ دِينٍ ، فَكَانوا يُعظِّمونَ الْحَرَمَ والْحُرُماتِ ، حتى يُعظّمونَ الأشهرَ الْحُرُمَ ، وعَظُمَ عَلَيْهِمُ القِتالُ في الأشهُرِ الْحُرُمِ .
قَالَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ حَاكِيًا قَولَهم : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ثُمَّ جَاءهُمْ الرَّدُّ بِأنَّ مَا يَفعلونَهُ هُمْ أعْظَمُ مِنْ ذلِكَ : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) .

وَكَانَ بَعضُ أَهْلِ الجاهليةِ يَتلاعبونَ بالأشهُرِ الْحُرُمِ تَقديما وتأخيرا ، مِنْ أَجْلِ استحلالِ القتالِ في شَهْرٍ مُحَرَّمٍ ، وَهُوَ المقصودُ بِقولِهِ عزَّ وَجَلَّ : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ) .

ولِذَا قَالَ عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبٌ . رَوَاهُ البخاريُّ ومسلِمٌ .
قَالَ الخطّابيُّ : قولُهُ : " إنَّ الزمانَ قَدِ استدارَ كَهيئتِهِ " مَعَنْى هَذَا الكلامِ : أنَّ العَربَ في الجاهليةِ كانتْ قَدْ بَدَّلَتْ أشهرَ الْحُرُمِ ، وَقَدَّمَتْ وأخَّرَتْ أوقاتَها مِنْ أجلِ النسيءِ الذي كَانوا يَفعلونَهُ ... وَكَانَ أكثرُهُمْ يَتمسكونَ بِذلِكَ وَلا يَستَحِلُّونَ القِتَالَ فيها، وَكَانَ قبائلٌ مِنْهُم يَستبيحونَها فَإذا قَاتلوا في شَهْرٍ حَرَامٍ حَرَّموا مَكَانَهُ شَهرا آخَرَ مِنْ أَشْهُرِ الْحِلِّ ويقولونَ : نَسَأنا الشَّهْرَ ، واستمرَّ ذلِكَ بِهِمْ حَتى اختلطَ ذَلِكَ عَلَيْهِم ، وَخَرَجَ حِسابُهُ مِنْ أيديهِمْ ، فَكَانوا رُبَّما يَحجُّونَ في بعضِ السنينَ في شهرٍ ، ويحجُّون مِنْ قابِلٍ في شهرٍ غيرِهِ ، إلى أنْ كَانَ العامُ الذي حَجَّ فيه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَصَادَفَ حَجُّهُمْ شَهْرَ الحَجِّ الْمَشروعِ ، وَهُوَ ذو الْحِجَّةِ ، فَوقَفَ بِعَرَفَةَ اليومَ التاسِعَ مِنْهُ ، ثُمَّ خَطَبَهُمْ فَأَعَلَمَهُمْ أنَّ أَشْهُرَ النسيءِ قَدْ تَنَاسَخَتْ باستدارةِ الزَّمَانِ ، وَعَادَ الأمرُ إلى الأصْلِ الذي وَضَعَ اللهُ حِسابَ الأشهرِ عَليْهِ يومَ خَلَقَ السمواتِ والأرضِ . اهـ .

وقَالَ ابنُ الجوزيِّ : كَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ تَمسكَّتْ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلام بِتَحْرِيمِ الشُّهُورِ الأَرْبَعَةِ ، فَرُبمَا احتاجوا إِلَى تَحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ لِحَرْبٍ تَكُونُ بَينَهُم ، فيَؤخِّرونَ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ إِلَى صَفَرٍ ، ثُمَّ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَأْخِيرِ تَحْرِيمِ صَفَرٍ ، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى تتدافعَ الشُّهُورُ ، فَيَستديرَ التَّحْرِيمُ على السَّنَّةِ كُلِّهَا، فَكَأنَّهُم يَسْتَنْسِئونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ويَستقرِضُونَهُ . اهـ .

وَكَانَ مُعظَمُ أهلِ الجاهليةِ يُعظِّمونَ الأشهرَ الْحُرُمَ
قَالَ أَبو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ : كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ نَقُولُ جَاءَ مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ ، لا نَدَعُ حَدِيدَةً فِي سَهْمٍ، وَلا حَدِيدَةً فِي رُمْحٍ إِلاَّ انْتَزَعْنَاها فَأَلْقَيْنَاها.ِوفي رواية : إلاَّ نَزَعْنَاها تَعْظِيمًا لِلشَّهْرِ .
وَذَكَرَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ شهرَ رَجَبٍ ، فَقَالَ: كُنَّا نُسَمِّيهِ الأَصَمَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حُرْمَتِهِ ، أَوْ شِدَّةِ حُرْمَتِهِ فِي أَنْفُسِنَا .

أيُّها المؤمنونَ :
عِظِّمُوا مَا عَظَّمَهُ اللهُ وَرسولُهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ القرطبيُّ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، صَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِذَا عَظَّمَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ صَارَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَدِّدَةً ؛ فَيُضَاعَفُ فِيهِ الْعِقَابُ بِالْعَمَلِ السَّيِّئِ ، كَمَا يُضَاعَفُ الثَّوَابُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَإِنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِي الشَّهْرِ الحرامِ في البلَدِ الحرامِ لَيْسَ ثَوَابُهُ ثَوَابَ مَنْ أَطَاعَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَلالِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ . وَمَنْ أَطَاعَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَلالِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ لَيْسَ ثَوَابُهُ ثَوَابَ مَنْ أَطَاعَهُ فِي شَهْرٍ حَلالٍ فِي بَلَدٍ حَلالٍ . اهـ .


الثانية :

لا تتميّزُ الأشهرُ الْحُرُمُ بتفضيلِ العِبَادَةِ فِيها ، إلاّ مَا جَاءَ في شَهرِ اللهِ الْمُحرَّمِ؛ لقولِهِ عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ . رَوَاهُ مسلمٌ .
وَمَا جَاءَ في فَضْلِ صيامِ عَاشُوراءَ ، مِن قولِهِ عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ. رَوَاهُ مسلِمٌ .
والتفضيلُ فيه لَيْسَ لأجْلِ الأشهُرِ الْحُرُمِ بَلْ لأجْلِ مَا أَجْرَى اللهُ فيه مِنْ نُصْرَةِ ونَجَاةِ نبيِّ اللهِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ، وَهلاكِ فِرعونَ وقومِهِ .
والنصُّ جَاءَ بِتعظيمِ الأشهُرِ الْحُرُمِ ، والنهيِّ عَنِ المعصيةِ فيها ؛ فوَجَبَ الوقوفُ مَعَ النصِّ ، اقتداءً واتِّبَاعا .

أيُّها الكِرَامُ :
وَرَدَتْ أحاديثٌ في فضائلِ شَهْرِ رَجَبٍ ، ولا يَصِحُّ مِنْهَا شيءٌ .
قَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فَضْلِ رَجَبٍ حَديثٌ آَخَرُ ، بَلْ عامةُ الأحاديثِ المأثورةِ فِيهِ عنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبٌ ، والحديثُ إذا لم يُعْلَمْ أنَّه كَذِبٌ، فَرِوايتُهُ في الفَضَائلِ أمْرٌ قَريبٌ ، أمَّا إذا عُلِمَ كَذِبُهُ فَلا يجوزُ روايتُهُ إلاَّ مَعَ بيانِ حَالِهِ . اهـ .

وسُئلَ شيخُنَا العثيمينُ رَحَمِهُ اللهُ : مَا حُكْمُ تخصيصِ شَهْرِ رَجَبٍ بِعُمْرَةٍ أوْ صيامٍ أوْ أيِّ عَمَلٍ صالِحٍ ؟ وَهَلْ لَهُ مِيزةٌ عَنْ سِوَاهُ مِنَ الأشْهُرِ الْحُرُمِ ؟
فَأجَابَ رَحِمَهُ اللهُ :
ليْسَ لِشهرِ رجبٍ مِيزةٌ عَنْ سِوَاهُ مِنَ الأشهُرِ الْحُرُمِ ، ولا يُخَصُّ لا بِعُمْرَةٍ ولا بصيامٍ ولا بِصلاةٍ ولا بِقراءةِ قُرْآنٍ ، بَلْ هُوَ كَغَيرِهِ مِنَ الأشهُرِ الْحُرُمِ ، وَكُلُّ الأحاديثِ الواردةِ في فضلِ الصلاةِ فيه أو الصومِ فيه فَإنها ضعيفةٌ، لا يُبْنى عَلَيْهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ . اهـ .

إضافة رد

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
خُطبة جُمعة .. في شأن الماء نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 24-11-2015 08:33 PM
خُطبة جُمعة عن .. (الإنصاف) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 15-11-2015 01:24 PM
خُطبة جُمعة عن .. (خطر النفاق) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 06-10-2015 07:57 PM
خُطبة جُمعة .. عن الوَرَع نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 03-04-2015 08:06 AM
خُطبة جُمعة .. عن (الإحسان) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 03-01-2015 08:22 AM

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 04:22 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, by Sherif Youssef

يُشْترَطُ فِي حَالِ نَقْلِ الفَتَاوَى مِنْ مُنْتَدَياتِ الإرْشَادِ ذِكْرُ اِسْمِ فَضَيلةِ الشَيْخِ عَبْدِ الرَحمنِ السُحَيْمِ أَوْ ذِكْرُ اسْمِ المُنْتَدى