ثم تأملْ قولَه تعالى : ( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) يتبيّنْ لكَ أنَّ اتّباعَ الهوى سببٌ في الْجَورِ ، ومجانبةِ العَدْلِ وتركِ الإنصافِ .
فالهوى والإنصافُ على طرفَي نقيضٍ ، أقْسمَ الهوى ألاَّ يُسَاكِنَ العَدْلَ والإنصافَ في قلبِ بَشَرٍ ، فإذا حلَّ الهوى ترحّلَ الإنصافُ ، وإذا ثبتَ الإنصافُ والعدلُ في قلبٍ سليمٍ سَلِمَ مِنَ الهوى ، وأُوصِدتْ الأبوابُ في وجْهِـه .
وما أثارَ غبارَ زوبعةِ الهوى إلاَّ ضَعفُ التوحيدِ ، وقِلّةُ الصِّدْقِ في قولِ كَلمةِ الإخلاصِ .
قالَ ابنُ رَجَبٍ : فَمَنْ صَدَقَ في قولِه لا إلَهَ إلا اللهُ ، لم يُحِبَّ سِواه ، ولم يَرْجُ إلا إيّاه ، ولم يَخْـشَ أحـدا إلا اللهَ ، ولم يتوكـلْ إلا على اللهِ ، ولم تبْقَ له بقيّةٌ من آثارِ نفسِهِ وهواه . اهـ .
عبادَ اللهِ
لقدْ توعّدَ اللهُ المطفِّفينَ بِالوَيلِ ، وهو الهلاكُ والخسارُ ، وهُمْ -أعني المطففينَ- الذين إذا اكتالُوا على النَّاسِ يستوفون وإذا كالُوا أو وَزَنُـوا لهم يُخسِرُون الميزانَ .
روى الإمام مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ , فَلَقِيَ رَجُلاً لَمْ يَشْهَدِ الْعَصْرَ ، فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ عَنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ؟ فَذَكَرَ لَهُ عُذْرًا ، فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب : طَفَّفْتَ .
قَالَ مَالِكٌ : وَقد يُقَالُ لِكُلِّ شيءٍ : وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ .
وروى عبدُ الرزاقِ وابنُ أبي شيبةَ أن سَلْمَانَ قَالَ: الصَّلاةُ مِكْيَالٌ ، مَنْ أَوْفَى أُوفِيَ بِهِ ، وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِلْمُطَفِّفِينَ .
فلا يُتصوّرُ أنَّ التطفيفَ في الكيلِ والوزنِ فَحَسْب ، بل هُو أعمُّ مِنْ ذَلِكَ .
فَمِنَ الصورِ التي يَدْخُلُها التطفيفُ ، ما يكونُ مِنَ الوالِدِ الذي يُريدُ مِن أولادِه أنْ يَبَرُّوه ولا يَعَقُّوه ، وهذا مَطلَبٌ مَنْشُودٌ ، لا غَضَاضَةَ فيهِ ، ولكِنَّ الوالِدَ يَطْلُبُ ذلك وهو لا يُحْسِنُ إلى أولادِهِ في التربيةِ ، بلْ رُبْمَا في التسميةِ ، ولا يُحْسِنُ تَعليمَهُم . فأيُّ بِـرٍّ أرادَ ؟ وأيُّ عقوقٍ نَشَـدَ ؟
إنَّ الإنصافَ يقْتَضِي أنْ يُحْسِنَ هوَ أوَّلاً إلى بَنِيْه ، ثم يُطالِبَهُم بالإحسانِ إليهِ ، أمَّا أنْ يَحِيفَ في تعامُلِهِ مَعَهُم ثم يُطالِبَهم بالإنصافِ فَذَلِكَ بَخْسٌ لِمِيزانِ الحياةِ .
إنَّ التطفيفَ هو أنْ يأخذَ المرءُ كامِلَ حُقِوقِهِ ، دونَ أن يُنقِصَ منها شيئا ، في مقابلِ أن يبخسَ الطرفَ الآخَرَ حُقوقَه ، فيكيلَ بمكيالينِ ، ويَزِنَ بميزانينِ . وإذا ما فعلَ ذَلِكَ فقد عرّضَ نفسَهُ للوعيدِ الذي توعّدَ اللهُ بِهِ مَنْ يبخسونَ الناسَ في الكيلِ ، وهُمْ يَستوفون إذا كَالَ لهُمُ النَّاسُ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) .
وهؤلاء هُمُ الجُهالُ ، قالَ أبو الحسنِ البوشنجي في منازِل الناس : الجهالُ الذين علانيتُهُم تخالِفُ أسرارَهُم، ولا يُنصِفونَ مِنْ أنفسِهِم ويطلبونَ الإنصافَ مِنْ غيرِهِم .
ومِنْ التطفيفِ وقِلَّةِ الإنصافِ : أنْ يُفْرِطَ الإنسانُ في المديحِ إذا أحبَّ، ويُبْهِتَ صَاحِبَهُ إذا أبْغَضَ .
قالَ عُمَرُ رضيَ اللّهُ عنه : لا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفا ، ولا بُغْضُك تَلَفا . فقيلَ : كيفَ ذاك ؟ قالَ : إذا أحببتَ كَلِفتَ كَلَفَ الصَّبيِّ ، وإذا أبْغَضتَ أحببتَ لِصَاحِبِكَ التَّلَفَ . رواهُ البخاريُ في الأدبِ الْمُفْرَدِ .
وكثيرٌ مِنَ النَّاسِ إذا أحبَّ أفْرَطَ في المدحِ إفراطا .
وإذا أبْغَضَ أسْرَفَ في الذمِ إسرافا .
ومَن كانَ هذا حالُه مع إخوانِهِ ففيه شَبَهٌ مِن بني قينقاعِ الذين قالوا عنْ عبدِ اللهِ بنِ سَلاَمٍ : خيرُنا وابنُ خيرِنا ، فلما علِمُوا أنه أسلَمَ قَلَبوا له ظهرَ المِجَنِّ ، فقالوا : شرُّنا وابنُ شرِّنا. وهو هو ابنُ سلامٍ ! واليهودُ قومٌ بُهْتٌ، كما قال عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ رضي اللهُ عنْهُ . كما في الصحيحينِ
وهذا الصنيعُ - أعني الاعتدالَ في الحُبِّ والبُغْضِ - مما يَجْعلُ للصُّلْحِ موضِعًا ، ويُبقي على المودةِ زمنا . ويتركُ لعودةِ المياهِ إلى مجاريها طريقا ، كما قيل :
إذا أنتَ لم تُنْصِفْ أخاكَ وجَدْتَـه = على طَرَفِ الْهُجْرانِ إنْ كان يَعْقِلُ
ومِن عدمِ الإنصافِ أنْ يفتحَ الإنسانُ عينيهِ على أوْسَعِ حَدَقَاتِـها على عيوبِ إخوانِهِ ، ويُغمضَ عينيه عن عيوبِ نفسِه كأنما أُصيبَ بالعَمَى !
قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُبْصِرُ أحدُكُم القذاةَ في عينِ أخيهِ وينسى الجذلَ أو الجذعَ في عينِ نفسِهِ . قال أبو عبيدٍ : الجذلُ الخشبةُ العاليةُ الكبيرةُ . رواه البخاريُّ في الأدبِ الْمُفرَدِ مرفوعا وموقوفا ، وصححَ الألبانيُّ وَقْفَه على أبي هريرةَ ، ورواه ابنُ حبانٍ مرفوعا – أي : مِنْ قولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
ومِنَ المسالِكِ المذمومةِ : إسقاطُ الآخرينَ عند الاستدلالِ والمناقشةِ ، فالعالِمُ الفلانيُّ غَلِطَ ، والآخرُ جانبَ الصوابَ في مسألةِ كذا ، والثالثُ له رأيٌّ شاذٌّ ، وهكذا حتى يكونَ قولُهُ هَوَ المقبولُ ، وحجّةُ خَصْمِهِ داحضةٌ ، وربما كانَ ما ذهبَ إليه هو الشّاذُ ، والصوابُ في خلافِـهِ .
والإنصافُ يقتضي أنْ يَذْكُرَ المستَدِلُّ ما لَهُ وما عليهِ ، ثم يُجيبَ عما اسْتَدَلَّ به مخَالِفُـهُ .
وليس مِنْ عالِمٍ إلا وله زلّـةٌ أو خطأٌ ، غيرَ أنَّ المحذورَ تتبّعُ زلاتِ العلماءِ ، وإشهارُ سَقَطَاتِ الفضلاءِ .
قال ابنُ أبي حاتِم : سمعتُ أبي يقولُ : ذَكَرتُ لأحمدَ بنِ حنبلٍ مَن شَرِب النبيذَ مِن مُحَدِّثي الكوفةِ ، وسَمّيتُ له عددا منهم ، فقال : هذه زَلاّتٌ لهم ، ولا تَسْقُطُ بِزَلاّتِهم عَدَالَتُهُم .
الثانية :
عبادَ اللهِ :
إن المتأمِّلَ لحالِ السّلـفِ - رحمَهُم اللهُ - وكيفَ كانَ تعاملُهم ، يرى أنَّ سُوقَ الإنصافِ كانت عندَهم رائجةً ، بخلافِ حالِ كثيرٍ مِنَ الناسِ اليومَ فقد كسدتْ بِضاعةُ الإنصافِ عندَهم وراجَ الحَيْفُ والجور ، وما كانَ لـه أنْ يروجَ عِندَ أهْلِ الإسلامِ والإيمانِ .
حَدَّثَ هشامُ بنُ عُروةَ عن أبيه قالَ : ذهبتُ أسُبُّ حسّانَ عندَ عائشةَ ، فقالتْ : لا تسُبَّهُ ، فإنَّهُ كانَ ينافِحُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه البخاريُّ ومسلم
فهذهِ أمُّنـَا - أمٌّ المؤمنينَ عائشةُ رضي اللهُ عَنْها وأرْضَاها - تقولُ ذلكَ في حقِّ مَنْ طالَهـا منه الأذى . لَم يَمنعْها ذلك من إنصَافِهِ ، ومَعْرِفةِ ما لَهُ مِنَ الفَضْلِ حيثُ كانَ ينافِحُ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فلم تَنْسَ لأهْلِ الفضلِ فضلَهُم .
وذاكَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ يُنصِفُ خُصومَهُ الذين لَقِيَ منْهُم مِنَ الأذى ما لقي ، فيذكُرُ طوائفَ مِنْ أهلِ البِدَعِ ، فيقولُ : حسناتُـهُم نوعانِ : إما مُوافَقَةُ أهلِ السُّنةِ والحديثِ . وإما الردُّ على من خالَفَ السُّنةَ والحديثَ ببيانِ تناقِضِ حِجَجِهِم . انتهى .
وقد نشأتْ ناشئةٌ تنتسبُ إلى العِلْمِ وتدَّعِيهِ ؟! لم يُعْرَفوا بِطولِ باعٍ في العِلمِ ، ولا بكثرةِ ملازمةِ الشيوخِ ، أو تدارسِ العِلمِ وتدريسِه . إلا أنَّـهُم اشتهروا بألسنةٍ حِدادٍ يَسلُقُونَ بـها علماءَ الأمةِ ، ويُغِيرونَ على تراثٍ تلقّتْه الأمـةُ بالقبولِ .
حظُّهُم مِن العِلمِ مَقَالٌ في صحيفةٍ ، أو بَحْثٌ في مَجَلَّةٍ !
أينَ هذا المتعالِمُ مِنْ قولِ الإمامِ الذهبيِّ - في ترجمةِ محمدِ بنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزيِّ- : ولو أنَّا كُلَّما أخطأَ إمامٌ في اجتهادِه في آحادِ المسائلِ خَطأً مَغْفُورًا لَهُ ، قُمْنَا عليه وبدَّعْنَاه وهَجَرْنَاه لَمَا سَلِمَ مَعَنا لا ابنُ نَصْرٍ ولا ابنُ منده ، ولا مَنْ هُوَ أكبرُ مِنهما ، واللهُ هو هادي الخلقِ إلى الحقِّ ، وهوَ أرحمُ الراحمينَ ، فنعوذُ باللهِ مِنَ الهوى والفظاظةِ . انتهى .
كم نحنُ بحاجةٍ إلى الاعترافِ لأهلِ الفضلِ بفَضْلِهِم ، فالإنصافُ دليلٌ على العِلْمِ، وثمرةٌ مِنْ ثمراتِه .
نَقَل القرطبيُّ عن ابنِ عبدِ البرِّ قَوله : مِن بَرَكَةِ العِلْمِ وآدابِه: الإنصافُ فيه، ومَن لم يُنْصِف لم يَفْهَم ولم يَتَفَهَّم .
الإنصافُ سببٌ للرِّفعةِ في الدنيا والآخرةِ .
قال عليه الصلاةُ والسلامُ : إنَّ الْمُقسطينَ عِندَ اللهِ على منابرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمينِ الرَّحمنِ عزَّ وجَلّ - وكِلتا يديه يمينٌ - الذين يَعدِلُون في حُكْمِهِم وأهلِيهم وما وَلُوا . رواه مسلمٌ .