العودة   منتديات الإرشاد للفتاوى الشرعية فتاوى الإرشاد قسـم المقـالات والـدروس والخُطب قسم الخُطب المنبرية
منوعات المجموعات مشاركات اليوم البحث

إضافة رد
   
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع

نسمات الفجر
الصورة الرمزية نسمات الفجر

الهيئـة الإداريـة


رقم العضوية : 19
الإنتساب : Feb 2010
الدولة : السعودية
المشاركات : 3,356
بمعدل : 0.65 يوميا

نسمات الفجر غير متواجد حالياً عرض البوم صور نسمات الفجر


  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : قسم الخُطب المنبرية
افتراضي خُطبة جُمعة عن .. (الإنصاف)
قديم بتاريخ : 15-11-2015 الساعة : 01:24 PM

الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، وأفضلُ الصلاةِ وأتَمُّ التسليمِ على سيدِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحْبِه وسلَّمَ أجمعين .

أمَّا بعدُ :

فإنَّ مِنْ أجلِّ نِعَمِ اللهِ على هذهِ الأمة أنْ زيّنَهَا بالأخلاقِ الحميدةِ والصفاتِ المجيدةِ التي تَمَّمها وأكملَها خاتَمُ الأنبياءِ والمرسلينَ سيدُّنا محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، القائل : " إنَما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ " وفي روايةٍ ، لأتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ . رواه الإمامُ أحمدُ وابنُ أبي شيبةَ والحاكمُ وصححَهُ .
ومِنْ بينِ هذهِ الأخلاقِ الساميةِ الرفيعةِ خُلُقُ ( الإنصافِ )، وهُوَ خُلُقٌ رفيعٌ ، وعادةٌ ساميةٌ ، ومَبدأٌ مُهِمُّ قلَّمَا تَجِدُهُ واضِحَ المعالِمِ واسِعَ الأرجاءِ عندَ غيرِ المسلمينَ كما هوَ عندَ المسلمين .

وقد أمَر اللهُ بالإنصافِ .
قال سفيانُ بنُ عيينةَ: سُئل عليٌّ رضي اللهُ عنْهُ عنْ قولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) قالَ : العدلُ الإنصافُ ، والإحسانُ التفضُّلُ .
والإنصافُ هو: أنْ تُعطيَ غيرَك مِنَ الحقِّ مِنْ نفْسِكَ مثلَ الذي تُحِبُّ أنْ تأخُذَهُ مِنْهُ لو كنتَ مكانَه، ويكونُ ذلكَ بالأقوالِ والأفعالِ ، في الرِّضَا والغَضَبِ، مع مَنْ تُحِبُّ ومع مَنْ تَكْرَه .
فقد كان مِن دُعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ . رواه الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ . وصححه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .
قالَ عمارُ بنُ ياسِرٍ رضي اللهُ عنْهُ : ثلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فقد جَمَعَ الإيمانَ: الإنصافُ مِنْ نَفسِكَ ، وبَذْلُ السلامِ للعالَمِ ، والإنفاقُ مِنَ الإقتارِ . رواه البخاريُّ تعليقا .

فالإنصافُ عزيزٌ ، ولا يُوفَّقُ لَهُ إلا كُلُّ مُتجردٍ عنِ الهوى خالٍ مِن التَّعصُبِ .
قالَ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ : ما أحسنَ الإنصافَ في كلِّ شيءٍ .
وقالَ مالكُ بنُ دينارٍ : وليسَ في النَّاسِ شيءٌ أقلُّ منَ الإنصافِ .
وقالَ ابنُ حَزمٍ : أفضلُ نِعَمِ اللهِ تعالى على المرءِ أنْ يَطبعَهُ على العدلِ وحبِّهِ، وعلى الحقِ وإيثارِه .

وقدْ أُمِرْنَا بالإنصافِ معَ الأعداءِ حتى في حالِ البغضاءِ ، لِمَا يُصاحِبُ العداوةَ والبغضاءَ في الغالبِ مِنْ غَلَبَةِ النفْسِ ومَيلِها إلى الظُّلمِ والتّشفِي . قالَ سبحانُه وتعـالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .
قالَ ابنُ جريرٍ الطَبِريُّ: وأمَّا قولُهُ: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا) فإنَّه يقولُ : ولا يحمِلَنَّكم عداوةُ قومٍ على ألاَّ تعدِلُوا في حُكمِكُم فيهِم وسيرتِكُم بينَهُم فتجورُوا عليهِم مِنْ أجْلِ ما بينِكُم وبينِهِم مِنَ العداوةِ . اهـ .
وقالَ ابنُ كثيرٍ : أي لا يحملنَّكُم بُغْضُ قومٍ على تَرْكِ العَدْلِ فيهِم بلِ استعملوا العدلَ في كُلِّ أحـدٍ صديقًا كانَ أو عَدُّوًا . اهـ .

وقدْ أَمَرَ اللهُ تباركَ وتعالى بالعدلِ حتى في الأقوالِ ، كَمَا في قولِهِ تباركَ وتعالى : (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) .
وأمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلّ نبيـَّه محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأنْ يَحْكُمَ بالقِسْطِ ، فقالَ: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
وأمَرَ اللهُ المؤمنينَ بما أَمَرَ بِهِ الْمُرسلينَ ، فقالَ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) .

ثم تأملْ قولَه تعالى : ( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) يتبيّنْ لكَ أنَّ اتّباعَ الهوى سببٌ في الْجَورِ ، ومجانبةِ العَدْلِ وتركِ الإنصافِ .
فالهوى والإنصافُ على طرفَي نقيضٍ ، أقْسمَ الهوى ألاَّ يُسَاكِنَ العَدْلَ والإنصافَ في قلبِ بَشَرٍ ، فإذا حلَّ الهوى ترحّلَ الإنصافُ ، وإذا ثبتَ الإنصافُ والعدلُ في قلبٍ سليمٍ سَلِمَ مِنَ الهوى ، وأُوصِدتْ الأبوابُ في وجْهِـه .
وما أثارَ غبارَ زوبعةِ الهوى إلاَّ ضَعفُ التوحيدِ ، وقِلّةُ الصِّدْقِ في قولِ كَلمةِ الإخلاصِ .
قالَ ابنُ رَجَبٍ : فَمَنْ صَدَقَ في قولِه لا إلَهَ إلا اللهُ ، لم يُحِبَّ سِواه ، ولم يَرْجُ إلا إيّاه ، ولم يَخْـشَ أحـدا إلا اللهَ ، ولم يتوكـلْ إلا على اللهِ ، ولم تبْقَ له بقيّةٌ من آثارِ نفسِهِ وهواه . اهـ .

عبادَ اللهِ
لقدْ توعّدَ اللهُ المطفِّفينَ بِالوَيلِ ، وهو الهلاكُ والخسارُ ، وهُمْ -أعني المطففينَ- الذين إذا اكتالُوا على النَّاسِ يستوفون وإذا كالُوا أو وَزَنُـوا لهم يُخسِرُون الميزانَ .
روى الإمام مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ , فَلَقِيَ رَجُلاً لَمْ يَشْهَدِ الْعَصْرَ ، فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ عَنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ؟ فَذَكَرَ لَهُ عُذْرًا ، فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب : طَفَّفْتَ .
قَالَ مَالِكٌ : وَقد يُقَالُ لِكُلِّ شيءٍ : وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ .
وروى عبدُ الرزاقِ وابنُ أبي شيبةَ أن سَلْمَانَ قَالَ: الصَّلاةُ مِكْيَالٌ ، مَنْ أَوْفَى أُوفِيَ بِهِ ، وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِلْمُطَفِّفِينَ .

فلا يُتصوّرُ أنَّ التطفيفَ في الكيلِ والوزنِ فَحَسْب ، بل هُو أعمُّ مِنْ ذَلِكَ .

فَمِنَ الصورِ التي يَدْخُلُها التطفيفُ ، ما يكونُ مِنَ الوالِدِ الذي يُريدُ مِن أولادِه أنْ يَبَرُّوه ولا يَعَقُّوه ، وهذا مَطلَبٌ مَنْشُودٌ ، لا غَضَاضَةَ فيهِ ، ولكِنَّ الوالِدَ يَطْلُبُ ذلك وهو لا يُحْسِنُ إلى أولادِهِ في التربيةِ ، بلْ رُبْمَا في التسميةِ ، ولا يُحْسِنُ تَعليمَهُم . فأيُّ بِـرٍّ أرادَ ؟ وأيُّ عقوقٍ نَشَـدَ ؟
إنَّ الإنصافَ يقْتَضِي أنْ يُحْسِنَ هوَ أوَّلاً إلى بَنِيْه ، ثم يُطالِبَهُم بالإحسانِ إليهِ ، أمَّا أنْ يَحِيفَ في تعامُلِهِ مَعَهُم ثم يُطالِبَهم بالإنصافِ فَذَلِكَ بَخْسٌ لِمِيزانِ الحياةِ .

ومِن صورِ التطفيفِ حِرصُ الرَّجُلِ على نيلِ كافةِ حقوقِهِ الزوجية المشروعةِ ، ورُبَّما غيرِ المشروعةِ قَسْرًا وقَهْرًا ، ويريدُ أنْ يَحْصُلَ على حقوقِهِ تامّةً تامّة ، بينمَا لا يَفِي بشيءٍ مِنْ حُقِوقِ زوجتِه إلا قليلاً .
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضيَ اللّهُ عنهما : " إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ، كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي الْمَرْأَةُ ؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنْظِفَ جَمِيعَ حَقِّي عَلَيْهَا ، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) . رواه ابنُ أبي شيبةَ وابنُ جريرٍ في تفسيرِه .
ومعنى " أستنظِفُ " أي آخُذُ حَقِّي كاملاً .

إنَّ التطفيفَ هو أنْ يأخذَ المرءُ كامِلَ حُقِوقِهِ ، دونَ أن يُنقِصَ منها شيئا ، في مقابلِ أن يبخسَ الطرفَ الآخَرَ حُقوقَه ، فيكيلَ بمكيالينِ ، ويَزِنَ بميزانينِ . وإذا ما فعلَ ذَلِكَ فقد عرّضَ نفسَهُ للوعيدِ الذي توعّدَ اللهُ بِهِ مَنْ يبخسونَ الناسَ في الكيلِ ، وهُمْ يَستوفون إذا كَالَ لهُمُ النَّاسُ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) .
وهؤلاء هُمُ الجُهالُ ، قالَ أبو الحسنِ البوشنجي في منازِل الناس : الجهالُ الذين علانيتُهُم تخالِفُ أسرارَهُم، ولا يُنصِفونَ مِنْ أنفسِهِم ويطلبونَ الإنصافَ مِنْ غيرِهِم .

ومِنْ التطفيفِ وقِلَّةِ الإنصافِ : أنْ يُفْرِطَ الإنسانُ في المديحِ إذا أحبَّ، ويُبْهِتَ صَاحِبَهُ إذا أبْغَضَ .
قالَ عُمَرُ رضيَ اللّهُ عنه : لا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفا ، ولا بُغْضُك تَلَفا . فقيلَ : كيفَ ذاك ؟ قالَ : إذا أحببتَ كَلِفتَ كَلَفَ الصَّبيِّ ، وإذا أبْغَضتَ أحببتَ لِصَاحِبِكَ التَّلَفَ . رواهُ البخاريُ في الأدبِ الْمُفْرَدِ .

وكثيرٌ مِنَ النَّاسِ إذا أحبَّ أفْرَطَ في المدحِ إفراطا .
وإذا أبْغَضَ أسْرَفَ في الذمِ إسرافا .

ومَن كانَ هذا حالُه مع إخوانِهِ ففيه شَبَهٌ مِن بني قينقاعِ الذين قالوا عنْ عبدِ اللهِ بنِ سَلاَمٍ : خيرُنا وابنُ خيرِنا ، فلما علِمُوا أنه أسلَمَ قَلَبوا له ظهرَ المِجَنِّ ، فقالوا : شرُّنا وابنُ شرِّنا. وهو هو ابنُ سلامٍ ! واليهودُ قومٌ بُهْتٌ، كما قال عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ رضي اللهُ عنْهُ . كما في الصحيحينِ
وهذا الصنيعُ - أعني الاعتدالَ في الحُبِّ والبُغْضِ - مما يَجْعلُ للصُّلْحِ موضِعًا ، ويُبقي على المودةِ زمنا . ويتركُ لعودةِ المياهِ إلى مجاريها طريقا ، كما قيل :
إذا أنتَ لم تُنْصِفْ أخاكَ وجَدْتَـه = على طَرَفِ الْهُجْرانِ إنْ كان يَعْقِلُ

أيها المؤمنون :
قديماً قيلَ : لو أنْصَفَ الناسُ لاستراحَ القاضي .
فإذا رأى المرءُ عيوبَ نفسِه ، وقارنَـها بعيوبِ إخوانِه عَلِمَ أنَّ فيهِ عيوبا لو رآها بـها اكتفى .
وقديما قيل :
قَبِيحٌ مِن الإِنْسَانِ يَنْسَى عُيُوبَهُ *** وَيَذْكُرْ عَيْبًا فِي أَخِيهِ قَدْ اخْتَفَى
وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لَمَا عَابَ غَيْرَهُ *** وَفِيهِ عُيُوبٌ لَوْ رَآهَا بِهَا اكْتَفَى

ومِن عدمِ الإنصافِ أنْ يفتحَ الإنسانُ عينيهِ على أوْسَعِ حَدَقَاتِـها على عيوبِ إخوانِهِ ، ويُغمضَ عينيه عن عيوبِ نفسِه كأنما أُصيبَ بالعَمَى !
قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُبْصِرُ أحدُكُم القذاةَ في عينِ أخيهِ وينسى الجذلَ أو الجذعَ في عينِ نفسِهِ . قال أبو عبيدٍ : الجذلُ الخشبةُ العاليةُ الكبيرةُ . رواه البخاريُّ في الأدبِ الْمُفرَدِ مرفوعا وموقوفا ، وصححَ الألبانيُّ وَقْفَه على أبي هريرةَ ، ورواه ابنُ حبانٍ مرفوعا – أي : مِنْ قولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

ومِنَ المسالِكِ المذمومةِ : إسقاطُ الآخرينَ عند الاستدلالِ والمناقشةِ ، فالعالِمُ الفلانيُّ غَلِطَ ، والآخرُ جانبَ الصوابَ في مسألةِ كذا ، والثالثُ له رأيٌّ شاذٌّ ، وهكذا حتى يكونَ قولُهُ هَوَ المقبولُ ، وحجّةُ خَصْمِهِ داحضةٌ ، وربما كانَ ما ذهبَ إليه هو الشّاذُ ، والصوابُ في خلافِـهِ .
والإنصافُ يقتضي أنْ يَذْكُرَ المستَدِلُّ ما لَهُ وما عليهِ ، ثم يُجيبَ عما اسْتَدَلَّ به مخَالِفُـهُ .
وليس مِنْ عالِمٍ إلا وله زلّـةٌ أو خطأٌ ، غيرَ أنَّ المحذورَ تتبّعُ زلاتِ العلماءِ ، وإشهارُ سَقَطَاتِ الفضلاءِ .
قال ابنُ أبي حاتِم : سمعتُ أبي يقولُ : ذَكَرتُ لأحمدَ بنِ حنبلٍ مَن شَرِب النبيذَ مِن مُحَدِّثي الكوفةِ ، وسَمّيتُ له عددا منهم ، فقال : هذه زَلاّتٌ لهم ، ولا تَسْقُطُ بِزَلاّتِهم عَدَالَتُهُم .

الثانية :

عبادَ اللهِ :
إن المتأمِّلَ لحالِ السّلـفِ - رحمَهُم اللهُ - وكيفَ كانَ تعاملُهم ، يرى أنَّ سُوقَ الإنصافِ كانت عندَهم رائجةً ، بخلافِ حالِ كثيرٍ مِنَ الناسِ اليومَ فقد كسدتْ بِضاعةُ الإنصافِ عندَهم وراجَ الحَيْفُ والجور ، وما كانَ لـه أنْ يروجَ عِندَ أهْلِ الإسلامِ والإيمانِ .
حَدَّثَ هشامُ بنُ عُروةَ عن أبيه قالَ : ذهبتُ أسُبُّ حسّانَ عندَ عائشةَ ، فقالتْ : لا تسُبَّهُ ، فإنَّهُ كانَ ينافِحُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه البخاريُّ ومسلم
فهذهِ أمُّنـَا - أمٌّ المؤمنينَ عائشةُ رضي اللهُ عَنْها وأرْضَاها - تقولُ ذلكَ في حقِّ مَنْ طالَهـا منه الأذى . لَم يَمنعْها ذلك من إنصَافِهِ ، ومَعْرِفةِ ما لَهُ مِنَ الفَضْلِ حيثُ كانَ ينافِحُ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فلم تَنْسَ لأهْلِ الفضلِ فضلَهُم .

وذاكَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ يُنصِفُ خُصومَهُ الذين لَقِيَ منْهُم مِنَ الأذى ما لقي ، فيذكُرُ طوائفَ مِنْ أهلِ البِدَعِ ، فيقولُ : حسناتُـهُم نوعانِ : إما مُوافَقَةُ أهلِ السُّنةِ والحديثِ . وإما الردُّ على من خالَفَ السُّنةَ والحديثَ ببيانِ تناقِضِ حِجَجِهِم . انتهى .

وقد نشأتْ ناشئةٌ تنتسبُ إلى العِلْمِ وتدَّعِيهِ ؟! لم يُعْرَفوا بِطولِ باعٍ في العِلمِ ، ولا بكثرةِ ملازمةِ الشيوخِ ، أو تدارسِ العِلمِ وتدريسِه . إلا أنَّـهُم اشتهروا بألسنةٍ حِدادٍ يَسلُقُونَ بـها علماءَ الأمةِ ، ويُغِيرونَ على تراثٍ تلقّتْه الأمـةُ بالقبولِ .
حظُّهُم مِن العِلمِ مَقَالٌ في صحيفةٍ ، أو بَحْثٌ في مَجَلَّةٍ !

أينَ هذا المتعالِمُ مِنْ قولِ الإمامِ الذهبيِّ - في ترجمةِ محمدِ بنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزيِّ- : ولو أنَّا كُلَّما أخطأَ إمامٌ في اجتهادِه في آحادِ المسائلِ خَطأً مَغْفُورًا لَهُ ، قُمْنَا عليه وبدَّعْنَاه وهَجَرْنَاه لَمَا سَلِمَ مَعَنا لا ابنُ نَصْرٍ ولا ابنُ منده ، ولا مَنْ هُوَ أكبرُ مِنهما ، واللهُ هو هادي الخلقِ إلى الحقِّ ، وهوَ أرحمُ الراحمينَ ، فنعوذُ باللهِ مِنَ الهوى والفظاظةِ . انتهى .

كم نحنُ بحاجةٍ إلى الاعترافِ لأهلِ الفضلِ بفَضْلِهِم ، فالإنصافُ دليلٌ على العِلْمِ، وثمرةٌ مِنْ ثمراتِه .
نَقَل القرطبيُّ عن ابنِ عبدِ البرِّ قَوله : مِن بَرَكَةِ العِلْمِ وآدابِه: الإنصافُ فيه، ومَن لم يُنْصِف لم يَفْهَم ولم يَتَفَهَّم .

الإنصافُ سببٌ للرِّفعةِ في الدنيا والآخرةِ .
قال عليه الصلاةُ والسلامُ : إنَّ الْمُقسطينَ عِندَ اللهِ على منابرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمينِ الرَّحمنِ عزَّ وجَلّ - وكِلتا يديه يمينٌ - الذين يَعدِلُون في حُكْمِهِم وأهلِيهم وما وَلُوا . رواه مسلمٌ .

والإنصافُ - رعاكَ اللهُ - سَببٌ لِمَعْرِفةِ الحقِّ والتوفيقِ للصوابِ .
قال ابنُ القيمِ : ومَن لَهُ قَدَمٌ راسِخٌ في الشريعةِ ، ومعرفةٌ بمصادِرِهَا وموارِدِها ، وكانَ الإنصافُ أحَبَّ إليه مِنَ التَّعَصُّبِ والهوى ، والعِلْمُ والْحُجَّةُ آثُرُ عِنْدَهُ مِنَ التقليدِ لمْ يَكَدْ يخفى عليه وجْهُ الصوابِ ، واللهُ الْمُوفِّقُ .

إضافة رد

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
خُطبة جُمعة .. في شأن الماء نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 24-11-2015 08:33 PM
خُطبة جُمعة عن .. (خطر النفاق) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 06-10-2015 07:57 PM
خُطبة جُمعة .. عن الوَرَع نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 03-04-2015 08:06 AM
خُطبة جُمعة .. عن (الإحسان) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 03-01-2015 08:22 AM
خُطبة جُمعة (مِن أسبابِ الثباتِ) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 18-04-2014 02:17 AM


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 10:10 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, by Sherif Youssef

يُشْترَطُ فِي حَالِ نَقْلِ الفَتَاوَى مِنْ مُنْتَدَياتِ الإرْشَادِ ذِكْرُ اِسْمِ فَضَيلةِ الشَيْخِ عَبْدِ الرَحمنِ السُحَيْمِ أَوْ ذِكْرُ اسْمِ المُنْتَدى