نسمات الفجر
الصورة الرمزية نسمات الفجر

الهيئـة الإداريـة


رقم العضوية : 19
الإنتساب : Feb 2010
الدولة : السعودية
المشاركات : 3,356
بمعدل : 0.65 يوميا

نسمات الفجر غير متواجد حالياً عرض البوم صور نسمات الفجر


  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : قسم الخُطب المنبرية
افتراضي خُطبة جُمعة عن .. (اتهام النفس)
قديم بتاريخ : 23-12-2015 الساعة : 10:04 PM

الْحَمدُ للهِ ذي الجلالِ والإكرامِ ، لَكَ الْحَمْدُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ .

أما بَعدُ :

فإنَّ في النفوسِ أدواءً كامِنةً ، وآفاتٍ مُهْلِكَةً .
وإنَّ للنفوسِ عِلَلاً وعوراتٍ ، ولها نشاطٌ وفَتَرَاتٌ ، وفيها خَللٌ ، ولها تلبيسٌ .
وقَلَّ مَنْ يَتفقدُ نَفْسَهُ وَيَتَّهِمُهَا ، ويَنظرُ إليها بِعينِ البصيرةِ ، ويَعرِفُ مداخلَ الشيطانِ عَليْها ، ويُدرِكُ مواطِنَ الضَّعفِ فيها ، ويَسعى جَاهِدا في علاجِها أكْثَرَ مِنْ علاجِ المرضِ الفتاكِ في بدَنِهِ .

ذلك أنَّ أمراضَ القلوبِ وأدواءَ النفوسِ خفيّةٌ وأمراضَ الأبدانِ ظاهرةٌ جَلِـيّةٌ .

وقد تكررَ ذِكْرُ النَّفْسِ في الكتابِ والسُّنَّةِ ، تَارةً بِذِكْرِ مَحَاسنِهَا ، وتارةً بِذكْرِ مَسَاوِئها ، وحِينًا بالتحذيرِ مِنْ كَيْدِها ومكائدِهَا .
وأُخْرَى بالثناءِ على النَّفْسِ الزكيةِ .

وَأَقْسَمَ اللهُ في كِتابِهِ أحَدَ عَشَرَ قَسَمًا ... فأقْسَمَ بالشَّمْسِ وَبِضَوئها ، وَبالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَبالنَّهَارِ إِذَا جَلَّى البسيطةَ ، وَباللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ، وَبالسَّمَاءِ وَبِنَائِهَا أو بَانِيها ، وَبالأرْضِ وَمَن بَسَطَهَا ، وَبالنَفْسِ وَمَنْ سَوَّاهَا
وكَانَ جواب ُالقَسَمِ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) .
قَالَ ابنُ القيَّمِ : أيْ : أفْلَحَ مَنْ كَبّرَها وكَثَّرَها ونَمّاها بِطَاعَةِ اللهِ ، وخَابَ مَنْ صَغّرَهَا وحَقّرَهَا بِمَعَاصِي اللهِ . فالنُّفُوسُ الشريفةُ لا تَرْضَى مِنَ الأشياءِ إلاَّ بِأعلاهَا وَأَفضلِها وأحْمَدِها عَاقِبَةً ، والنُّفُوسُ الدنيئةُ تَحُومُ حَولَ الدَّنَاءاتِ وتَقَعُ عَلَيْها ، كَمَا يَقَعُ الذُّبَابُ عَلَى الأقْذَارِ ، فالنَّفْسُ الشَّرِيفةُ الْعَلِيّةُ لا تَرْضَى بالظُّلْمِ ولا بِالفواحِشِ ولا بِالسَّرقَةِ والْخِيانةِ ، لأنَّها أكبرُ مِنْ ذلِكَ وأجَلُّ ، والنّفْسُ الْمَهِينةُ الْحَقِيرةُ والْخَسِيسةُ بالضِّدِّ مِنْ ذلِكَ ؛ فَكُلُّ نَفْسٍ تَمِيلُ إلى ما يُناسبُهَا ويُشاكِلُها . اهـ .

وأقسَمَ اللهُ تَبَاركَ وتَعَالى بالنفسِ اللوامةِ ، فقَالَ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَنْدَمُ على مَا فَاتَ وتَلُومُ عَلَيْهِ .

وقَالَ الْحَسنُ : إِنَّ الْمُؤمنَ لا ترَاهُ إِلاَّ يلومُ نَفْسَهُ ؛ مَا أردْتُ بِكَلِمَتي ؟ مَا أرَدْتُ بأكْلَتِي؟ مَا أرَدْتُ بِحديثي نَفسِي، وَلا أُرَاهُ إِلاّ يُعَاتِبُها. وَإِنَّ الْفَاجِرَ يمْضِي قُدُماً لا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ .

وأمّا النَّفْسُ مُطْمَئِنَّةً ، فَلَها النداءُ يومَ فَوزِ السُّعداءِ : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي) .
قَالَ الْحَسَنُ : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْضَهَا اطْمَأَنَّتْ إِلَى اللهِ وَاطْمَأَنَّ اللهُ إِلَيْهَا ، وَرَضِيَتْ عَنِ اللهِ وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ فَأَمَرَ بِقَبْضِ رُوحِهَا وَأَدْخَلَهَا اللهُ الْجَنَّةَ ، وَجَعَلَهُ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ . ذكره البخاري تعليقا .

وضِدُّ هذهِ النفسِ المطمئنةِ : النفسُ الأمَّارَةُ بِالسوءِ .
وفي خَبَرِ امرأةِ العزيزِ : (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي) .
قَالَ العلماءُ : وَقَدْ رَكَّبَ اللهُ سُبحانَهُ في الإنسانِ نفْسًا أمّارةً ونفسًا مطمئنّةً ، وهما متعاديتانِ ، فكلُّ ما خفَّ على هَذِهِ ثَقُلَ على هذِهِ ، وكلُّ ما الْتَذَّتْ بِهِ هذِهِ تَألَّمَتْ به الأخْرَى . فَلَيْسَ على النفسِ الأمّارةِ أشقُّ مِنَ العَمَلِ للهِ ، وإيثارِ رِضَاهُ على هَوَاها ، وليسَ لها أنفعُ مِنْهُ . ولَيْسَ على النَّفْسِ الْمُطمَئنَّةِ أشقُّ مِنَ العَمَلِ لغيرِ اللهِ ، وإجابةِ داعي الهوَى ولَيْسَ عَلَيْها أضرُّ منه . اهـ .

وكم تُخَادِعُ النفسُ الأمَّارَةُ صاحِبَها ؛ فتُزيِّنُ لَهُ القبيحَ ، وتُقبِّحُ عندَهُ الْحَسنَ !
قَالَ الفضيلُ بنُ عِياضٍ : يَا مِسْكِيْنُ ! أَنْتَ مُسِيءٌ ، وَتَرَى أَنَّكَ مُحْسِنٌ ، وَأَنْتَ جَاهِلٌ ، وَتَرَى أَنَّكَ عَالِمٌ ، وَتَبْخَلُ ، وَترَى أَنَّكَ كَرِيْمٌ وَأَحْمَقُ ، وَتَرَى أَنَّك عَاقِلٌ ، أَجَلُكَ قَصِيْرٌ ، وَأَمَلُكَ طَوِيْلٌ .
قَالَ الذهبيُّ :
قُلْتُ: إِي وَاللهِ ، صَدَقَ، وَأَنْتَ ظَالِمٌ وَترَى أَنَّك مَظْلُوْمٌ ، وَآكِلٌ لِلْحَرَامِ وَترَى أَنَّك مُتَوَرِّعٌ ... وَطَالِبُ العِلْم لِلدُّنْيَا ، وَتَرَى أَنَّك تَطْلُبُهُ للهِ . اهـ .

أيها المؤمنون :
جِهادُ النفسِ مِنْ أعْظَمِ الجهَادِ ؛ لأنَّ النَفْسَ حَرُونٌ خدّاعَةٌ .
وفي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إِنَّ الإِيمَانَ قَائِدٌ وَالْعَمَلَ سَائِقٌ ، وَالنَّفْسَ حَرُونٌ ، فَإِنْ فَتَرَ سَائِقُهَا ضَلَّتْ عَنِ الطَّرِيقِ ، وَإِنْ فَتَرَ قَائِدُهَا حَرَنَتْ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا اسْتَقَامَتْ .
إِنَّ النَّفْسَ إِذَا أُطْمِعَتْ طَمِعَتْ ، وَإِذَا فَوَّضْتَ إِلَيْهَا أَسَاءَتْ ، وَإِذَا حَمَلْتَهَا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ صَلُحَتْ ، وَإِذَا تَرَكْتَ الأَمْرَ إِلَيْهَا فَسَدَتْ .
فَاحْذَرْ نَفْسَكَ ، وَاتَّهِمْهَا عَلَى دِينِكَ ، وَأَنْزِلْهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لا حَاجَةَ لَهُ فِيهَا وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهَا .

قَالَ ابنُ الجوزيِّ : تأمَّلْتُ جِهَادَ النفْسِ، فرأيتُهُ أعظمَ الجِهَادِ ، ورأيتُ خَلقًا مِنَ العُلَمَاءِ والزُّهَّادِ لا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ ...
ثم رُبَّ شَدٍّ أَوْجَبَ استرخاءً، ورُبَّ مُضَيِّقٍ على نَفْسِهِ فَرَّتْ مِنْهُ ، فَصَعُبَ عليه تَلافِيهَا ؛ وإنَّمَا الجهادُ لها كَجِهَادِ المريضِ العاقِلِ، يَحْمِلُهَا على مَكْروهِهَا في تناولِ مَا تَرْجُو بِهِ العافيةَ ...
فكذلِكَ المؤمنُ العاقِلُ، لا يترُكُ لِجَامَها، ولا يُهْمِلُ مِقْوَدَهَا، بل يُرخِي لها في وقتٍ، والطِّوَلُ بِيدِهِ ، فَمَا دامتْ على الجادَّةِ لم يُضايقْهَا في التضييقِ عليها، فإذا رَآها قدْ مَالَتْ رَدَّها باللطفِ ، فإنْ وَنَتْ وأَبَتْ ، فبِالْعُنْفِ ... وليْسَ في سياطِ التأديبِ أجودُ مِنْ سَوطِ عَزْمٍ . اهـ .

أيُّها المؤمنونَ :
الحقُّ ثقيلٌ على النفوسِ ، والْبَاطِلُ خفيفٌ عَلَيْها .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : الْحَقُّ ثَقِيلٌ مَرِيءٌ ، وَالْبَاطِلُ خَفِيفٌ وَبِيءٌ ، وَرُبَّ شَهْوَةِ سَاعَةٍ ، تُورْثُ حُزْنًا طَوِيلا .

في النفوسِ شهواتُ العَظَمَةِ والتعاظُمِ ، والإسلامُ جَاءَ بِقْطَعِ دابِرِ ذلكَ كُلِّـه .
فَـ " ما استكبرَ مَن أكلَ مع خادمِهِ ، ورَكِبَ الحمارَ بالأسواقِ ، واعتقلَ الشاةَ فَحَلَبها " رواه البخاريُّ في " الأدبِ المفردِ " . وحسنَه الألبانيُّ .
ُّ
وفي الحديثِ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعْنَى هَذَا : هُوَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ ، وَيُلْزِمَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الْكِبْرِ وَالنَّخْوَةِ . وَقَوْلُهُ: " يَمْثُلَ "، مَعْنَاهُ : يَقُومُ وَيَنْتَصِبُ مَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ . اهـ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ : الْتَقَيْتُ مَعَ أَبِي عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ يَوْمَ عِيدٍ فِي الْمُصَلَّى، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ إِذَا الْتَقَى بِوَاحِدٍ مِنَّا سَأَلَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ عَنْ مَسَائِلَ فِقْهِيَّةٍ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ إِجْلالَهُ وَزِيَادَةَ مَحِلِّهِ عِنْدَ الْعَوَّامِ، فَسَأَلَنِي بِحَضْرَةِ النَّاسِ فِي مُصَلًّى الْعِيدِ عَنْ مَسَائِلَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قُلْتُ لَهُ : أَيُّهَا الأُسْتَاذُ فِي قَلْبِي شَيْءٌ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ مُنْذُ حِينٍ ، قَالَ: قُلْتُ : إِنِّي رَجُلٌ قَدْ دُفِعْتُ إِلَى صُحْبَةِ النَّاسِ، وَحُضُورِ هَذِهِ الْمَحَافِلِ، وَإِنِّي رُبَّمَا أَدْخُلُ مَجْلِسًا يَقُومُ لِي بَعْضُ الْحَاضِرِينَ، وَيَتَقَاعَدُ عَنِ الْقِيَامِ لِي بَعْضُهُمْ ، فَأَجِدُنِي أَنْضَمُّ عَلَى الْمُتَقَاعِدِ حَتَّى لَوْ قَدَرْتُ عَلَى الإِسَاءَةِ إِلَيْهِ فَعَلْتُ، قَالَ : فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ كَلامِي سَكَتَ أَبُو عُثْمَانَ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ سَكَتُّ ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ مِنَ الْمُصَلَّى ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ قَعَدْتُ وَأَذِنْتُ لِلنَّاسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ عِنْدَ الْمَسَاءِ جَارٌ لِي قَلّ مَا كَانَ يَتَخَلَّفُ عَنْ مَجْلِسِ أَبِي عُثْمَانَ فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ ؟ قَالَ: مِنْ مَجْلِسِ أَبِي عُثْمَانَ، قُلْتُ: وَفِيمَا ذَا كَانَ يَتَكَلَّمُ ؟ قَالَ: أَجْرَى الْمَجْلِسَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فِي رَجُلٍ كَانَ ظَنُّهُ بِهِ أَجْمَلَ ظَنٍّ ، فَأُخْبِرَ عَنْ سِرِّهِ بِشَيْءٍ أَنْكَرَهُ أَبُو عُثْمَانَ وَتَغَيَّرَ لهُ بِهِ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ حَدِيثِي، قُلْتُ: وَبِمَ خَتَمَ حَدِيثَ ذَلِكَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: أَظْهَرَ لِي مِنْ بَاطِنِهِ شَيْئًا لَمْ أَشُمَّ مِنْهُ رَائِحَةَ الإِيمَانِ، وَيُشْبِهُ أَنَّهُ عَلَى الضَّلالِ مَا لَمْ يُظْهِرْ تَوْبَتَهُ مِنَ الَّذِي أَخْبَرَنِي بِهِ عَنْ نَفْسِهِ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ: فَوَقَعَ عَلَيَّ الْبُكَاءُ ، وَتُبْتُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ . رَوَاهُ البيهقيُّ في " شُعَبِ الإيمانِ" .

قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: نَظَرُ الْجَاهِلِ بِعَيْنِهِ وَنَاظِرِهِ وَنَظَرُ الْعَاقِلِ بِقَلْبِهِ وَخَاطِرِهِ . ثُمَّ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي صَوَابِ مَا أَحَبَّتْ ، وَتَحْسِينِ مَا اشْتَهَتْ ؛ لِيَصِحَّ لَهُ الصَّوَابُ ، وَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ أَمْرَانِ فَدَعْ أَحَبَّهُمَا إلَيْك ، وَخُذْ أَثْقَلَهُمَا عَلَيْك .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ : هُوَ أَنَّ الثَّقِيلَ يُبْطِئُ النَّفْسَ عَنِ التَّسَرُّعِ إلَيْهِ فَيَتَّضِحُ مَعَ الإِبْطَاءِ وَتَطَاوُلِ الزَّمَانِ صَوَابُ مَا اسْتَعْجَمَ وَظُهُورُ مَا اسْتَبْهَمَ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ.
وَالْمَحْبُوبُ أَسْهَلُ شَيْءٍ تُسْرِعُ النَّفْسُ إلَيْهِ ، وَتُعَجِّلُ بِالإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، فَيَقْصُرُ الزَّمَانُ عَنْ تَصَفُّحِهِ ، وَيَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ لِتَقْصِيرِ فِعْلِهِ ، فَلا يَنْفَعُ التَّصَفُّحُ بَعْدَ الْعَمَلِ وَلا الاسْتِبَانَةُ بَعْدَ الْفَوْتِ . اهـ .

أيها الكرام :
المؤمِنُ لا يَرى لِنَفْسِهِ حَقًا ولا فَضْلا .

لَمّا وُلِي أبو بكرٍ الخلافةَ خَطَبَ الناسَ فقَالَ : إني قَدْ وُلِّيتُ عَليكُم ولَسْتُ بِخَيْرِكُم . فَلَمَّا سَمِع الحسنُ البَصريُّ قَولَهَ قَالَ : هُوَ واللهِ خَيْرُهُمْ غَيرُ مُدَافَعٍ ، ولَكِنَّ الْمُؤمِنَ يَهْضِمُ نَفْسَه . رَوَاهُ البيهقيُّ .

قال أَبو الدَّرْدَاءِ : لا تَفْقَهُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى تَمْقُتَ النَّاسَ فِي جَنْبِ اللَّهِ ، ثُمَّ تَرْجِعَ إِلَى نَفْسِكَ فَتَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا .

وقَالَ شعيبُ بنُ حرْبٍ : بيْنَا أنَا أطوفُ إذ لَكَزَنِي رجلٌ بِمِرْفَقِهِ ، فالتفتُ فإذا أنا بالفضيلِ بنِ عياضٍ ، فقَالَ : يا أبا صالِحٍ ، فقلتُ : لبيّكَ يا أبا علي ، قَالَ : إنْ كُنتَ تظنُّ أنَّهُ قدْ شَهِد الْمَوسِمَ شرٌّ مِنِّي ومِنْكَ فبئسَ ما ظننتَ .
وقَالَ مالكُ بنُ دينارٍ : إذا ذُكِرَ الصالِحُونَ فأُفٍّ لي و أُفّ !
وقال أَيُّوبُ السِّخْتِيانيّ : إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ كُنْتُ مِنْهُمْ بِمَعْزِلٍ .
وقَالَ عبدُ اللهِ بنُ بكرٍ : أفضْتُ مَعَ أبي مِنْ عَرَفَةَ قَالَ : فقَالَ لي يا بُنَيَّ ! لولا أني فِيهِم لَرَجَوْتُ أنْ يُغْفَرَ لَهُم !
وهكذا المؤمِنُ لا يَرى لِنفْسِهِ فضلا على أحَدٍ، وكُلَّ إنسانٍ أَعْرَفُ بِنفْسِهِ .
قَالَ يونسُ بنُ عُبيدٍ : كُنتُ أُذَاكِرُ يوما مَعَ الحسَنِ التواضُعَ قَالَ: فالتفتَ إلينا الشيخُ فقَالَ: أتدرونَ ما التَّواضُعُ ؟ أنْ تَخْرُجَ مِنْ بيتِكَ حين تَخرُجُ فَلا تَلْقَى مُسْلِمًا إلاَّ رأيتَ أنَّ لَهُ عَليكَ الفضلَ !

أيها المؤمنونَ
اتهامُ النفْسِ عَلامَةُ إخلاصٍ .
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ . فَقَالَ خَالِدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَقْوَامًا غَرَّهُمْ سِتْرُ اللهِ , وَفَتَنَهُمْ حَسَنُ الثَّنَاءِ ، فَلا يَغْلِبَنَّ جَهْلُ غَيْرِكَ بِكَ عِلْمَكَ بِنَفْسِكَ , أَعَاذَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ أَنْ نَكُونَ بِالسِّتْرِ مَغْرُورِينَ ، وَبِثَنَاءِ النَّاسِ مَسْرُورِينَ ، وَعَمَّا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْنَا مُتَخَلِّفِينَ وَمُقَصِّرِينَ ، وَإِلَى الأَهْوَاءِ مَائِلِينَ . قَالَ: فَبَكَى .

أيها المؤمنون :
المغرورُ مَن صانَعَ نفسَه وداهَنَها !
قَالَ أَبو حَفْصٍ النيسابوريُّ: مَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلَى دَوَامِ الأَوْقَاتِ ، وَلَمْ يُخَالِفْهَا فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ ، وَلَمْ يَجُرَّهَا إلَى مَكْرُوهِهَا فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ ؛ كَانَ مَغْرُورًا ، وَمَنْ نَظَرَ إلَيْهَا بِاسْتِحْسَانِ شَيْءٍ فَقَدْ أَهْلَكَهَا .

أيُّها الكرام :
كم هِيَ الأدواءُ الكامِنَةُ في النفوسِ ؟
مِن عُجْبٍ وكِبْر وشَمَاتة ، واحتقارٍ وازدراءٍ للنَّاسِ حَسَبَ ألوانِهِم وأشكالِهِم وأجناسِهِم وبُلدانِهِم ؟

وربما عُوجِلَ الشامِتُ بالعقوبةِ !
حَكَى أَبُو فَرْوَةَ أَنَّ " طَارِقًا " صَاحِبَ شُرْطَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ مَرَّ بِابْنِ شُبْرُمَةَ وَطَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ ، فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ :
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تَخُبُّ كَأَنَّهَا ... سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيبٍ تَقَشَّعُ
اللَّهُمَّ لِي دِينِي وَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ . فَاسْتُعْمِلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ : أَتَذْكُرُ قَوْلَك يَوْمَ كَذَا إذْ مَرَّ بِك طَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنَّهُمْ يَجِدُونَ مِثْلَ أَبِيك وَلا يَجِدُ أَبُوك مِثْلَهُمْ . إنَّ أَبَاك أَكَلَ مِنْ حَلاوَتِهِمْ ، فَحَطَّ فِي أَهْوَائِهِمْ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ :
أَمَا تَرَى هَذَا الدَّيِّنَ الْفَاضِلَ كَيْفَ عُوجِلَ بِالتَّقْرِيعِ وَقُوبِلَ بِالتَّوْبِيخِ مِنْ أَخَصِّ ذَوِيهِ، وَلَعَلَّهُ مِنْ أَبَرِّ بَنِيهِ. فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ أَطْلَقُ مِنْهُ عَنَانًا، وَأَقْلَقُ مِنْهُ جَنَانًا. إذَا رَمَقَتْنَا أَعْيُنُ الْمُتَتَبِّعِينَ، وَتَنَاوَلَتْنَا أَلْسُنُ الْمُتَعَتِّبِينَ. هَلْ نَجِدُ غَيْرَ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مَلاذًا، وَسِوَى عِصْمَتِهِ مَعَاذًا ؟

أيها الكرامُ :
العاقِلُ مَنْ يَبدأُ بِنَفْسِهِ فيُصْلِحُهَا قَبْلَ أنْ يَشْتَغِلَ بالناسِ ..
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ..


الثانية :
الْحَمْدُ للهِ (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

أيها المؤمنون :
حِينَمَا تَسْمُو النَّفْسُ البشريَّةُ فإنها تَرتَقِي مَطالِعَ الجوزاءِ ! ويَتْعبُ الجِسْمُ في تحقيقِ غاياتِهَا ومَطَالِبِهَا ..
وإذا كانتِ النفوسُ كِبَارا = تعِبَتْ في مرادِهَا الأجسامُ

وتَسْتَلِذُّ نَفْسُ الْحُرِّ الْمُرَّ في سبيلِ التطلّعِ إلى العلياءِ
ومَنْ تَكُنِ العلياءُ هِمّةَ نَفْسِهِ = فَكُلُّ الذي يَلقَاهُ فيها مُحَبَّبُ

وحِين تعلو هِمّةُ النَّفْسِ يَزْدَاد قَدْرُها .. ويَرتفِعُ ثَمَنُهَا !
أمَّا حينَ تَهُونُ النَّفْسُ على صاحِبِهَا .. فإنَّهُ يَهونُ هُوَ في أعْينِ النَّاسِ
مَن يَهُنْ يَسْهُلْ الهوانُ عَلَيْهِ = ما لِجُرْحٍ بِمَيّتٍ إيلامُ

فإنَّ النَّاسَ يَضَعُون الإنسانَ حَيْثُ يَضَعُ نَفْسَهُ
كما قَالَ الجرجانيُّ :
أرَى الناسَّ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُمْ = ومَن أكْرَمَتْه عِزّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا

ومَتى هانَتِ النَّفْسُ عِنْدَ صاحِبِها دَسَّاهَا وحقَّرَهَا بِكُلِّ خُلُقٍ مَرْذُولٍ ! وصَغّرَهَا بِمَا يَشِينُهَا ، وتَخَلّقَ بِكُلِّ خُلُقٍ دنيءٍ ، ولا يَرْضَى بِالدُّونِ إلاَّ دنيءٌ .

" اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا ، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا " .

إضافة رد

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
خُطبة جُمعة .. في شأن الماء نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 24-11-2015 08:33 PM
خُطبة جُمعة عن .. (الإنصاف) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 15-11-2015 01:24 PM
خُطبة جُمعة عن .. (خطر النفاق) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 06-10-2015 07:57 PM
خُطبة جُمعة .. عن الوَرَع نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 03-04-2015 08:06 AM
خُطبة جُمعة .. عن (الإحسان) نسمات الفجر قسم الخُطب المنبرية 0 03-01-2015 08:22 AM

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 10:47 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, by Sherif Youssef

يُشْترَطُ فِي حَالِ نَقْلِ الفَتَاوَى مِنْ مُنْتَدَياتِ الإرْشَادِ ذِكْرُ اِسْمِ فَضَيلةِ الشَيْخِ عَبْدِ الرَحمنِ السُحَيْمِ أَوْ ذِكْرُ اسْمِ المُنْتَدى