فقد كان الناسُ قَبْل الإسلامِ في جَاهِليةٍ وشَرّ ..
كان الناس في هَرْج ومَرْج .. يَقْتُل القويُّ الضعيف ..
تُستباحُ الدماء ، وتُنْتَهَكُ الأعراض ، وتُسْلَبُ الحقوق .. ويُقْتَلُ البريء، والجاني حُـرٌّ طَلِيق ..
فَجَاء الإسلام وحَفِظَ الحقوق ، وصَانَ الأعراض ، وحَرَّمَ الدماء وشدَّدَ في شأنها ، حتى كان القاتِلُ مُتوعّدا بالنارِ واللعنةِ والغضبِ والعذابِ الشديد .. وكان جزاؤه في الدنيا القَتْل ، إلاّ أن يَعفو أولياءُ الدم .
قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) .
بل عَظَّمَ الله شأنَ النفس حتى كان قاتِل النفسِ كَقَاتِلِ الناسِ جميعا .
قال عَزّ وَجَلّ : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) .
قال مجاهد : مَن قَتَل نَفْسًا مُحَرَّمَة يَصْلَى النار بِقَتْلِها ، كَمَا يَصْلاها لو قَتَلَ الناسَ جميعا .
وقال قتادة : أعْظَّم اللهُ أجْرَها ، وعَظَّمَ وِزْرَها .
وعَظَّم النبي صلى الله عليه وسلم شأنَ الدِّمَاء ، حتى جَعَل دَم المسلم أعْظَم مِن الدُّنْيا بأسْرِها ، فقال عليه الصلاة والسلام : لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِم . رواه الترمذي والنسائي ، وصححه الألباني .
واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم سَفْكَ الدم الحرام مِن أعْظم الذنوب ، فقد سُئل عليه الصلاة والسلام : أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ . قيلَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ . قيلَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ. رواه البخاري ومسلم .
وقال عليه الصلاة والسلام : لنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا . رواه البخاري .
مِن أجل ذلك كانت الدماء أوّلَ ما يُقضى به بين الناسِ يومَ القيامة .
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ. رواه البخاري ومسلم .
واطَّرَح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دِماءَ الجاهلية ، فقال في خُطبة حجة الوداع : أَلا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوع ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ . رواه مسلم
وقال في يومِ الحجِّ الأكبر : إنّ دِمَاءكم وأمْوَالَكم وأعْرَاضَكم بينكم حَرَامٌ كَحُرْمةِ يومِكُم هذا في شَهْرِكُم هذا في بَلَدِكُم هذا . رواه البخاري ومسلم .
وقد تَبَرّأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن خَرَج على أمتّه يَضْرِبُ بَرَّها وفَاجِرَها، فقال عليه الصلاة والسلام : مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ . رواه مسلم .
وإنَّ مما يَنْتَظِمُ في هذا التشديد أنْ مَنَعَ الإسلامُ كلَّ وسِيلَةٍ تُفْضِي إلى ذلك ؛ فَمَنَعَ العَدَاوَاتِ والبغضاءَ والإحَن ، وما يَكُون سَببًا للاعْتِدَاء .
ففي الحديث : مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ .
وسَبَبُ ذلك أن الشيطانَ قد يَدْفَعُه لارْتِكاب جَريمة ، ولذلك جاء في رواية ما يُفَسِّر هذه الرواية : لا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاحِ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ . رواه مسلم .
وقال الإمام أحمد : الإمْسَاكُ في الفِتْنةِ سُنَّةٌ مَاضِية ، واجِبٌ لُزُومِها ، فإن ابْتُلِيتَ فَقَدِّم نفسك دون دِينِك ، ولا تُعِن على فتنة بِيَدٍ ولا لِسَان ، ولكن اكْفُف يَدَكَ ولِسانَك وهَوَاك .
تَـمَّـتْ ..
الخطبة الثانية :
أيها الناس :
لعلنا في زَمَنٍ كَثُرَ فيه التهاون بشأن الدماء ، حتى لكأنّا فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بِقوله: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ ، وَلا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ ؟ فَقِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : الْهَرْجُ : الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . رواه مسلم .
وإن مما يُمْدَحُ به المسلم : أن يَكُفَّ غَضَبه ، وأن يملِكَ زِمامَ نَفْسِه .
فقد سَألَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه يومًا : مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ ؟ قَالوا : الَّذِي لا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ . قَالَ : لَيْسَ بِذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ . رواه مسلم .
وكان كفُّ الْكَفّ مما سُطِّرتْ به صَفحاتُ التاريخ مَدْحا .
فقد نَاشَدَ عُثْمَانُ رَضْي اللهُ عنهُ النَّاسَ أَنْ لاَ تُرَاقَ فِيهِ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ . رواه ابن أبي شيبة .
عباد الله :
عَظِّمُوا ما عَظَّمَه اللهُ ورَسُولُه صلى الله عليه وسلم ..
ومَن اسْتَطاع أن لا يُحال بينه وبين الجنةِ بِمِلءِ كفٍّ مِن دمٍ حرام ، فَعَلَيه أن يَفْعَل .
ففي الحديث : مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لا يُصِيبَ دَمًا حَرَامًا، وَلا مِحْجَمَةً مِنْ دَمٍ حَرَامٍ لا يَأْتِي بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلاَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَهَا. رواه البيهقي في شُعب الإيمان .
وعند الطبراني مِن حديث جُنْدُبِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَحُولَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمٍ يُهْرِيقُهُ ، كَأَنَّمَا يَذْبَحُ دَجَاجَةً ، كُلَّمَا تَقَدَّمَ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ . قال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله رجال الصحيح . وصححه الألباني .
وقال جُنْدُبُ رضي الله عنه : مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ . رواه البخاري .
قال ابن حجر : وهذا لو لَم يَرِد مُصَرَّحًا بِرَفْعِه لَكَانَ في حُكْمِ المرفوعِ ، لأنه لا يُقال بالرأي ، وهو وعيد شديد لِقَتْلِ المسلمِ بِغيرِ حَقّ .
قال ابن القيم رحمه الله :
يا مغرورا بالأماني ! لُعِن إبليس وأُهْبِط مِن مَنْزلِ العِزّ بِتَرْكِ سَجْدةٍ واحدةٍ أُمِرَ بها ، وأُخْرِج آدم من الجنة بِلُقْمَةٍ تَنَاوَلَهَا ، وحُجِبَ القاتِلُ عنها بعد أن رَآها عِيانا بِمِلء كَفٍّ مِن دَم ، وأُمِر بِقَتْل الزاني أشْنَعِ القِتْلاتِ بإيلاج قَدْرِ الأُنْمُلَةِ فيما لا يَحِلّ ، وأُمِر بإيساعِ الظَّهْرِ سِياطًا بكلمةِ قَذْفٍ ، أو بِقَطْرَةِ سُكْر ، وأبان عُضْوًا مِن أعضائك بِثلاثةِ دراهم؛ فلا تأمَنْه أن يَحْبِسَك في النار بمعصية واحدة مِن معاصيه ، (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) .