عرض مشاركة واحدة

نسمات الفجر
الصورة الرمزية نسمات الفجر

الهيئـة الإداريـة


رقم العضوية : 19
الإنتساب : Feb 2010
الدولة : السعودية
المشاركات : 3,356
بمعدل : 0.65 يوميا

نسمات الفجر غير متواجد حالياً عرض البوم صور نسمات الفجر


  مشاركة رقم : 3  
كاتب الموضوع : محب السلف المنتدى : قسـم العقـيدة والـتوحيد
افتراضي
قديم بتاريخ : 07-01-2014 الساعة : 10:41 PM

الثالث : أن إياس الشيطان من أن يُعْبَد في جزيرة العرب لا يمنعه من المحاولات حتى يقع ما أراد !
وقد تقدّم خبره عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله : لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ . رواه البخاري ومسلم .

وكيف يُمكن القول بأن الشرك لا يقع في الأمة والنصوص معلومة مشهورة في إثبات الشرك والكفر في الأقوال والأفعال ؟ نحو قوله عليه الصلاة والسلام : مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ، وأصله في الصحيحين .
وقوله عليه الصلاة والسلام : من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك . رواه الإمام أحمد .
ونحو قوله عليه الصلاة والسلام : لا تشرك بالله شيئا وإن قُطِّعْت أو حُرِّقْت ، ولا تتركن الصلاة المكتوبة متعمدا ، ومن تركها متعمدا برئت منه الذمة . رواه ابن ماجه .
ونحو قوله عليه الصلاة والسلام : من أتى كاهنا أو عَرَّافًا فَصَدَّقه بما يقول فقد كَـفَـر بما أُنْزِل على محمد صلى الله عليه على وسلم . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
وقوله صلى الله عليه على آله وسلم : من أتى كاهنا فَصَدَّقه بِمَا يقول ، أو أتى امرأته في دُبُرِها ، فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه على وسلم . رواه الإمام أحمد وغيره .
وقوله عليه الصلاة والسلام : أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ : الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ . رواه البخاري ومسلم .

فلو كان لا يُخشى الشرك على هذه الأمة لكان هذا القول لا معنى له !
وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول قولا لا معنى له ، أو يتكلّم بكلام غير مفهوم .

فمن هو الأحقّ بهذا القول : (أي قول هذا ؟ أنسمع قولكم ، ونترك قول خير البشر) ؟؟

فهذه أقوال خير البشر صلى الله عليه وسلم الكثيرة الْمُثْبِتة أنه خاف على أمته الشرك ، وما تمسّكوا به ليس لهم فيه دليل .

والخوف من الشرك مما يقول به الصحابة الكرام رضي الله عنهم .

فقد تأول ابن عباس على ذلك قوله تعالى : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون ) قال : إن أحدهم يُشْرِك حتى يُشْرِك بِكَلْبِه : لولا الكَلب لَسُرِقْنا الليلة ! قال تعالى : ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) .

وخَطَب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال : يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل . فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا : والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عُمر ، مأذون لنا أو غير مأذون ! قال : بل أخرج مما قلت ، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ، فقال له من شاء الله أن يقول : وكيف نتقيه ، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال : قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نُشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لِمَا لا نَعْلم . رواه الإمام أحمد .

وهذا كالإجماع بين الصحابة رضي الله عنهم .
قال التابعي شقيق بن عبد الله البلخي : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يَرون شيئا من الأعمال تركه كفرٌ غير الصلاة .

قال ابن مسعود رضي الله عنه : مَن تَرك الصلاة فلا دِين له .
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : لا إيمان لمن لا صلاة له ، ولا صلاة لمن لا وضوء له .
وقال أيوب السختياني : تركُ الصلاةِ كُـفْـرٌ لا يُخْتَلَف فيه .

وجاء مثل هذا عن الصحابة رضي الله عنهم في تارك الفرائض ، كالزكاة والحج .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما تارك الزكاة عندي بمسلم . رواه ابن أبي شيبة .
قال ابن رجب : ويُحتملُ أنَّه كان يَراه كافراً بذلك ، خارجاً من الإسلام . اهـ .
وقال عمر رضي الله عنه : من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا.
قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه .

وروى سَعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جَدةٌ فلم يَحُجّ ، فيضربوا عليهم الجِزْية ، ما هم بمسلمين . ما هم بمسلمين .
قال ابن رجب : والظَّاهرُ أنّه كان يعتقد كُـفْـرَهم ، ولهذا أراد أنْ يَضْرِبَ عليهمُ الجزيةَ يقول : لم يدخُلوا في الإسلامِ بعدُ ، فهم مُستمرُّون على كتابِيّتِهم . اهـ .

وكذلك اعتقاد الصحابة رضي الله عنهم في السِّحْر والسَّحَرَة أنهم كُفّار .
فقد روى الإمام مالك في الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها ، وقد كانت دَبَّرَتها ، فأمَرَت بها فَقُتِلَت .

وروى ابن أبي شيبة من طريق نافع عن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها ، ووجَدُوا سِحْرها واعترفتْ به ، فأمر عبد الرحمن بن زيد فَقتلها ، فبلغ ذلك عثمان فأنكره واشتدّ عليه ، فأتاه ابن عمر فأخبره أنها سحرتها واعترفت به ، ووجدوا سِحْرها ، فكأن عثمان إنما أنكر ذلك لأنها قُتِلَتْ بِغَير إذنه .
وفي رواية عبد الرزاق فأنكر ذلك عليها عثمان ، فقال ابن عمر : ما تُنْكِر على أم المؤمنين من امرأة سَحَرت واعترفتْ ؟ فَسَكَت عثمان .

وكَتَب عمر رضي الله عنه إلى الآفاق : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة .
قال بَجَالة : فقتلنا ثلاث سواحر . رواه أبو يعلى وعبد الرزاق وابن أبي شيبة ، وأصله في صحيح البخاري .

ومذهب الإمام مالك رحمه الله أن تعلّم السحر وتعليمه كُـفْـر .
ففي " مختصر خليل " ( فقه مالكي ) : باب الرِّدَّة . قال : الرِّدَّة كُفْر المسلم بصريح ، أو لفظ يقتضيه ، أو فعل يتضمنه كإلْقَاء مصحف بِقَذَر ، وشَدّ زنار ، وسِحْر ، وقول بِقِدم العالم أو بقائه ، أو شك في ذلك ، أو بتناسخ الأرواح ، أو في كل جنس نذير ، أو ادّعى شِرْكا مع نبوته عليه الصلاة والسلام ، أو بمحاربة نبي .
قال الخرشي في شرح مختصر خليل :
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ كُـفْـرٌ ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ ، قَالَهُ مَالِك .
ثم قال :
وَإِذَا حُكِمَ بِكُفْرِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَجَاهَرًا بِهِ فَيُقْتَلُ إلاَّ أَنْ يَتُوبَ ، وَمَالُهُ فَيْءٌ ، وَإِنْ كَانَ يُخْفِيهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ يُقْتَلُ بِلا اسْتِتَابَةٍ . اهـ .
وقال الخرشي أيضا : وَتَصْغِيرُ الْمُصْحَفِ كُفْرٌ إنْ قَصَدَ اسْتِهْزَاءً ، وَإِلاَّ فَلا .
وقال أيضا : وَكَذَلِكَ مَنْ جَوَّزَ الْقَوْلَ بِمُحَارَبَةِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ؛ لأَنَّ مُحَارَبَتَهُمْ مُحَارَبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَمَنْ حَارَبَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ كَفَرَ .

وماذا عسى هؤلاء أن يقولوا في حدّ الرِّدّة الذي أجمعت عليه الأمة ؟

فالمرتد مُسلم خرج من دائرة الإسلام إلى الكفر . كما سيأتي تعريفه في كُتُب المالكية .

وإذا كانت الرِّدَّة وَقَعَت في القرون الفاضلة ، فكيف لا يُخاف الكفر والشرك على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟!

ووقوع الرِّدّة في هذه الأمة أمرٌ لا يُنكر ، فقد ارتد من ارتد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمنهم من مات على الكُفر ، كـ عبيد الله بن جحش ، حيث ارتَدّ في الحبشة ، ومات على غير ملّة الإسلام .
ومنهم من ارتدّ ثم عاد إلى الإسلام كـ طليحة بن خويلد ، وكان طليحة ارتد وادعى النبوة وقَتَل ، ثم أسلم وحَسُن إسلامه ، وكذلك عبد الله بن أبي سرح رضي الله عنه .

وإذا لم يُخش الشرك والكفر على الأمة لِمَ عَقَد الأئمة فُصُولاً وكُتُبا وأبْوابًا في كُتُبهم عن الرِّدَّة وأحكامها ؟
وهل الرِّدَّة إلاَّ في حق مُسلم خَلَع رِبْقَة الإسلام مِن رَقَبَته ؟!


وأشهر صُور الرَّدّة ما كان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما عُرِف بـ " حروب الرِّدَّة " .

قال أنس بن مالك رضي الله عنه : لَمَّا تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارْتَدَّتِ العَرَب . رواه النسائي .

وفي الصحيحين من حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال : لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ : يَا أَبَا بَكْرٍ ! كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا .
قَالَ عُمَرُ : فَوَ اللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ .

وحُمل على الرّدّة قوله عليه الصلاة والسلام : " يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ : أَصْحَابِي ، فَيُقَالُ : إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ "
ويُبيِّن هَذا مَا أعْقَب بِه البُخاري رِوَايته لِهذا الْحَدِيث بِقوله : قال محمد بن يوسف الفربري : ذُكِر عن أبي عبد الله عن قَبيصة قال : هُم الْمُرْتَدُّون الذين ارْتَدّوا على عهد أبي بكر ، فَقَاتَلَهم أبو بَكر رضي الله عنه .

ولَمَّا بلغ ابن عباس رضي الله عنهما أن عَلِيًّا رضي الله عنه حَرّق المرتدين أو الزنادقة قال : لو كنت أنا لم أحرقهم ولقتلتهم ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن بَدَّل دِينه فاقْتُلُوه . رواه الشافعي .
وفي رواية للبخاري : أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّقَ قَوْمًا ، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ .

ولَمَّا بعث النبي صلى الله عليه وسلم أَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً قَالَ : انْزِلْ ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ قَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ تَهَوَّدَ . قَالَ : اجْلِسْ ، قَالَ : لا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ - فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ . رواه البخاري ومسلم .

وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله في الموطأ : باب القضاء فيمن ارْتَـدّ عن الإسلام .

ثم قال الإمام مالك رحمه الله : وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نُرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - : " مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ " أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الإِسْلامِ إِلَى غَيْرِهِ ، مِثْلُ الزَّنَادِقَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ ، فَإِنَّ أُولَئِكَ إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ قُتِلُوا وَلَمْ يُسْتَتَابُوا ؛ لأَنَّهُ لا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُمْ ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ الإِسْلامَ ، فَلا أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ هَؤُلاءِ ، وَلا يُقْبَلُ مِنْهُمْ قَوْلُهُمْ ، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ الإِسْلامِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ ، وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا عَلَى ذَلِكَ رَأَيْتُ أَنْ يُدْعَوْا إِلَى الإِسْلامِ وَيُسْتَتَابُوا ، فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُتِلُوا ، وَلَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ فِيمَا نُرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مَنْ خَرَجَ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ ، وَلا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ ، وَلا مَنْ يُغَيِّرُ دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلاَّ الإِسْلامَ ؛ فَمَنْ خَرَجَ مِنْ الإِسْلامِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ ، فَذَلِكَ الَّذِي عُنِيَ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ .

وفي " الْمُدَوّنة " : سُئل الإمام مالك : إذَا ارْتَدَّ وَقَدْ حَجَّ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الإِسْلامِ ، أَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ الْحَجُّ ؟ قَالَ : لا ، حَتَّى يَحُجَّ حَجَّةً مُسْتَأْنَفَة . اهـ .

وهذا يُؤكِّد أنه يَرى أن ردّته وكُفره بعد إسلامه قد أحبطت ما عمله من أعمال قبل ذلك .

وقال الإمام عبد الرزاق الصنعاني ( المتوفَّي سنة 211 هـ ) : باب المرتدين
ثم روى عن معمر عن عمرو عن الحسن قال : إذا ارتد المرتد عن الإسلام ، فقد انقطع ما بينه وبين امرأته ، فقال الثوري : والرجل والمرأة سواء .
وروى عبد الرزاق عن الثوري قال : إذا ارْتَدَّتِ المرأة ولها زوج ولم يَدخل بها ، فلا صداق لها ، وقد انقطع ما بينهما ...

وبوّب عبد الرزاق (باب كُفْر المرأة بعد إسلامها)

وقال البخاري ( توفِّي سنة 256 هـ ) : كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم
ثم عقد أول باب في هذا الكتاب ، وهو :
باب إثم مَن أشْرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة . قال الله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )
، ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) .

وعقد بابا في " قَتْلِ مَنْ أَبَى قَبُولَ الْفَرَائِضِ ، وَمَا نُسِبُوا إِلَى الرِّدَّةِ " .
وبوّب أيضا " بَاب قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ ، وَقَالَ : إِنَّهُمْ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " .

قال الإمام البخاري :
وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في الْمُرْتَدِّين : اسْتَتِبْهم وكَفِّلهم ، فتابوا وكَفلهم عشائرهم .

بل جرى الخلاف في قبول توبة الْمُرْتَدّ ، فَمِن الصحابة من كان لا يَرى قبول توبة مَن ارتدّ .

قال الإمام الطحاوي ( متوفّى سنة هـ 321 هـ) : وقد رُوي في استتابة المرتد وفي تركها اختلاف عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم روى بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : أخذ بالكوفة رجال يُفْشُون حديث مسيلمة الكذاب ، فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان ، فكتب عثمان أن أعرض عليهم دين الحق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فمن قبلها وتَبَرّأ من مسيلمة فلا تَقتله ، ومَن لَزِم دِين مُسيلِمة فاقتله ، فقبلها رجال منهم فَتُرِكُوا ، ولَزِم دين مسيلمة رجال فَقُتِلُوا .

وروى الإمام مالك عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القارئ عن أبيه أنه قال : قَدِم على عمر بن الخطاب رَجلٌ مِن قِبَل أبي موسى الأشعري ، فسأله عن الناس فأخبره ، ثم قال له عمر : هل كان فيكم مِن مَغْرَبة خَبَر ؟ فقال : نعم ، رجل كَـفَـر بعد إسلامه . قال : فما فعلتم به ؟ قال : قَرَّبْنَاه فَضَرَبْنا عُنُقه ، فقال عمر : أفلا حبستموه ثلاثا ، وأطعمتموه كل يوم رغيفا ، واستتبتموه لعله يتوب ويُراجع أمْر الله ، ثم قال عمر : اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرضَ إذ بَلغني .

ورواه الطحاوي من طريق يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن جده قال : لَمَّا افتتح سعد وأبو موسى تستر أرسل أبو موسى رسولاً إلى عمر - فَذَكَر حديثا طويلا - قال : ثم أقبل عمر على الرسول فقال : هل كانت عندكم مَغْرَبة خَبَر ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين أخذنا رجلا من العرب كفر بعد إسلامه ، فقال عمر : فما صنعتم به ؟ قال : قدمناه فضربنا عنقه ! فقال عمر : أفلا أدخلتموه بيتا ثم طَيّنْتُم عليه ، ثم رميتم إليه برغيف ثلاثة أيام لعله أن يتوب ، أو يراجع أمر الله ؟ اللهم إني لم آمر ولم أشهد ولم أرْضَ إذ بلغني .
ثم قال الإمام الطحاوي : فهذا سعد وأبو موسى رضي الله عنهما لم يستتيباه ، وأحب عُمر أن يُستتاب ، فقد يحتمل أن يكون ذلك لأنه كان يرجو له التوبة ، ولم يوجب عليهم بِقَتْلِهم شيئا ؛ لأنهم فعلوا ما لهم أن يَروه فيفعلوه ، وإن خالف رأي إمامهم .

قال ابن عبد البر المالكي ( ت 463 هـ ) : وروى داود بن أبي هند عن الشعبي عن أنس بن مالك أن نَفَرًا من بكر بن وائل ارتدوا عن الإسلام يوم تستر ، فلحقوا بالمشركين ، فلما فُتحت قُتلوا في القتال ، قال : فأتيت عُمر بِفَتْحها ، فقال : ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ فعرضت عن حديثه لأشغله عن ذِكرهم ! فقال : لا ، ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ فقلت : قُتِلوا . قال : لأن أكون كنت أخذتهم سِلما أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء . قلت : وهل كان سبيلهم إلا القتل ؟ ارتدوا عن الإسلام ولَحِقُوا بالمشركين . قال : كنت أعرض عليهم أن يَدخلوا في الباب الذي خَرجوا منه ، فإن قبلوا قَبِلْت منهم وإلاَّ استودعتهم السجن .

قال أبو عمر ابن عبد البر : يعني : استودعتهم السجن حتى يتوبوا ، فإن لم يتوبوا قُتِلُوا . هذا لا يجوز غيره ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن بَدَّل دِينه فاضْرِبُوا عُنقه .
ثم قال : ولا أعلم بين الصحابة خِلافا في استتابة المرتد ، فكأنهم فَهِمُوا مِن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَن بَدّل دِينه فاقتلوه " أي : بعد أن يُسْتَتَاب . والله أعلم .
إلاَّ حديث معاذ مع أبي موسى ، فإن ظاهره القتل دون استتابة ، وقد قيل : إن ذلك المرتد قد كان اسْتُتِيب . اهـ .

وروى الإمام الدارمي والطحاوي من طريق ابن معيز السعدي قال : خرجتُ أطْلب فَرَسًا لي بالسَّحَر فَمَرَرْتُ على مَسجد من مساجد بني حنيفة ، فسمعتهم يشهدون أن مسيلمة رسول الله ! قال : فَرَجَعْتُ إلى عبد الله بن مسعود ، فذكرتُ له أمرهم ، فبعث الشُّرَط فأخذوهم ، فَجِئ بهم إليه ، فتابوا ورجعوا عما قالوا ، وقالوا : لا نعود ، فَخَلّى سَبيلهم ، وقَدّم رجلا منهم يقال له عبد الله بن النواحة فضرب عنقه ، فقال الناس : أخذت قوما في أمر واحد فَخَلَّيْتَ سبيل بعضهم وقَتَلْت بعضهم ؟ فقال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فجاء ابن النواحة ورجل معه يقال له : حجر بن وثال وافدين من عند مسيلمة ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهدان أني رسول الله ؟ فقالا : أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله ؟ فقال لهما : آمنت بالله وبرسوله ، لو كنت قاتلا وافدا لقتلتكما . فلذلك قَتَلْتُ هذا .
قال الطحاوي : فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قد قَتل ابن النواحة ولم يَقْبل توبته إذْ عَلِم أن هكذا خُلُقَه يُظْهِر التوبة إذا ظُفِر به ، ثم يعود إلى ما كان عليه إذا خُلِّي .

وفي رواية الدارمي : وَأَمَرَ بِمَسْجِدِهِمْ فَهُدِمَ.

ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والإمام أحمد وأبو داود مُختصَرا .

قال الإمام ابن عبد البر القرطبي المالكي ( ت 463 هـ ) في استتابة المرتد : قال بعضهم يُستتاب مرة واحدة في وقت واحد ساعة واحدة ، فإن تاب وانصرف إلى الإسلام وإلاَّ قُتِل .
وقال آخرون : يُستتاب شهرا .
وقال آخرون : يُستتاب ثلاثة أيام ، على ما رُوي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود - رحمه الله عليهم .
ولم يَستتب ابن مسعود ابن النواحة وَحْده ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه من عند مسيلمة : " لولا أنك رسول لقتلتك " ، فقال له ابن مسعود : إذ أظهرت الرِّدة أنت اليوم لست برسول ، فقتله ، واستتاب غيره . اهـ .

وروى عبد الرزاق والطحاوي من طريق أبي الطفيل أن قَوما ارْتَدّوا وكانوا نصارى ، فبعث إليهم علي بن أبي طالب معقلَ بن قيس التيمي ، فقال لهم : إذا حَكَكْتُ رَأسي فاقتلوا الْمُقَاتِلة واسْبُوا الذرية ، فأتى على طائفة منهم فقال : ما أنتم ؟ فقالوا : كُـنّا قَومًا نصارى فَخُيّرنا بين الإسلام وبين ديننا ، فاخترنا الإسلام ، ثم رأينا أن لا دِين أفضل مِن دِيننا الذي كنا عليه ! فنحن نصارى ، فَحَكّ رأسه ، فَقُتِلَتْ الْمُقَاتِلَة وسُبِيَت الذّرية .

وروى عبد الرواق من طريق أبي عمرو الشيباني قال : أُتِيَ عليّ بشيخ كان نصرانيا فأسلم ، ثم ارتد عن الإسلام ، فقال له علي : لعلك إنما ارتددت لان تُصيب ميراثا ، ثم تَرجع إلى الإسلام ؟ قال : لا ، قال : فلعلك خطبت امرأة فأبوا أن يزوجوكها ، فأردت أن تَزوجها ثم تعود إلى الإسلام ؟ قال : لا ، قال : فارجع إلى الإسلام ! قال : لا ، أما حتى ألقى المسيح ، فلا ، فأمَرَ به ، فَضُرِبَتْ عُنُقه .

وبهذا يتبيّن أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتورّعوا عن تكفير من كَفَر بالله ، إذ لو تورّعوا عن ذلك لَمَا حاربوا أهل الرِّدّة ، ولَمَا حَكموا عليم بالرِّدَّة أصلا .
ولو تورّعوا عن تكفير من كفر بالله لَمَا قَتَلوا السحرة .
ولو تورّعوا عن تكفير من كفر بالله لَمَا حكموا على أحد بالرَّدَّة ثم قَتَلوه بعد رِدّته ، كما صحّت بذلك الأخبار مما تقدّم بعضها .
ولا يُقال إن الصحابة رضي الله عنهم يَحْكُمُون على سبيل العموم ؛ لأن ما وقع لأشخاص مُعيّنين لا يُمكن أن يكون على سبيل العموم ، بل هو في حق أشخاص مُعينين حَكم الصحابة رضي الله عنهم بِكُفرهم ثم أقاموا عليهم حدّ الرَّدَة .

فهل (الصحابة استنكفوا وثقل عليهم أن يُرمى مؤمن مسلم من أهل القبلة بالشرك) ؟
الجواب : ما تقدّم من النصوص الصحيحة الصريحة في تكفير تارك الصلاة ، وهو كالإجماع بين الصحابة ، وتكفير تارك الزكاة ، وتارك الحج إذا كان مُستطيعا .
وقِتال الْمُرتدِّين ، وما سُمِّيت به تلك الحروب ، فإنها مشهورة بِحروب الرِّدَّة .
فكيف قاتلهم الصحابة رضي الله عنهم إذا كانوا لم يحكموا بِكُفْرِهم ؟!
وكيف سَمّوهم ( مُرْتدِّين ) واستباحوا دمائهم وأموالهم ؟!


وهذه عقيدة السلف الصالح من لدن الصحابة إلى زمان الأئمة الأربعة ، إلى الأزمنة المتأخِّرة .
فقد روى عبد الرزاق أن محمد بن أبي بكر كتب إلى عليّ يسأله عن مسلمين تزندقا ، فكتب إليه : إن تابا ، وإلاَّ فاضرب أعناقهما .

وروى عبد الرزاق أيضا أن عروة كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل أسلم ثم ارتد ، فكتب إليه عمر : أن سَلْه عن شرائع الإسلام ، فإن كان قد عَرفها فاعْرِض عليه الإسلام ، فإن أبى فاضْرِب عُنقه ، وإن كان لم يعرفها فغلّظ الجزية ، ودَعْه .

قال سفيان بن عيينة : المرجئة سمَّـوا ترك الفرائض ذنباً بمنـزلة ركوب المحارم وليس سواء ؛ لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية ، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كُـفْـر
قال ابن رجب رحمه الله : وقد استدل الإمام أحمد وغيره على كُـفْر تارك الصلاة بِكُفْر إبليس بترك السجود لآدم ، وترك السجود لله أعظم . اهـ .
فمن ترك الصلاة فبِه شَبَهٌ من إبليس لأنه ترك السجود لله والخضوع له والانقياد لأمره .

وقال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد بن حنبل عن من ترك الصلاة متعمداً ، فقال : لا يكفر أحدٌ بَذَنبٍ إلاَّ تارك الصلاة عمداً ، فإن تَرَكَ صلاةً إلى أن يدخل وقت صلاةٍ أخرى يُستتاب ثلاثا .

وقال أبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي : يُستتاب إذا تركها متعمداً حتى يذهب وقتها ، فإن تاب وإلا قُتل ، وبه قال أبو خيثمة .

وقال وكيع بن الجراح عن أبيه في الرجل يحضره وقت صلاة فيُقال له : صَلِّ ، فلا يُصلى . قال : يؤمر بالصلاة ويُستتاب ثلاث صلوات ، فإن صلى وإلا قُتل .
وقال محمد بن نصر المروزي : سمعت إسحاق يقول : قد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر ، وكذلك كان رأى أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتُها كافِـر .

ورأي الإمام مالك بن أنس رحمه الله أن القَدَرِيّة يُقتَلون بعد أن يُستتابوا .

فقد روى الإمام مَالِك في الموطأ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَقَالَ : مَا رَأْيُكَ فِي هَؤُلاءِ الْقَدَرِيَّةِ ؟ فَقُلْتُ : رَأْيِي أَنْ تَسْتَتِيبَهُمْ ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلاّ عَرَضْتَهُمْ عَلَى السَّيْفِ ! فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : وَذَلِكَ رَأْيِي . قَالَ مَالِك : وَذَلِكَ رَأْيِي .

وكان الإمام مالك بن أنس رحمه الله يرى أنهم أشركوا بِما ذهبوا إليه من مُعتقد فاسد في القَدَر .

قال أبو الوليد الباجي في المنتقى : وَقَدْ رَوَى أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : خَطَبَ إلَيَّ رَجُلٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَفَأُزَوِّجُهُ ؟ فَقَالَ : لا . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ)
وأبو الوليد الباجي مالكي المذهب ، وهو شارح موطأ الإمام مالك في شرحه المشهور بـ " الْمُنْتَقَى " ، وتُوفِّي سنة 474 هـ .

فهل تورّع أيضا الأئمة عن رَمْـي مسلم بالشرك أو بالكُفْـر إذا كان واقعا فيه مُتّصِفًا به ؟

قال الإمام ابن العربي القاضي المالكي ( متوفّى سنة 543 هـ) :
وكُلّ مَن اتَّهَم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْحُكْم فهو كَـافِـر .
وقال رحمه الله : فَكُلُّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَنْزِلُ الْغَيْثُ غَدًا فَهُوَ كَافِــر .
وقال : وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الرَّحِمِ فَهُوَ كَافِــر .
وقال : مَنْ ادَّعَى عِلْمَ الْكَسْبِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْعُمْرِ فَهُوَ كَافِــر.
وقال : فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ اللَّهِ فَهُوَ كَافِــر .
وقال : فَإِذَا أَنْكَرَ أَحَدٌ الرُّسُلَ ، أَوْ كَذَّبَهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَالأَوَامِرِ وَالنَّدْبِ ، فَهُوَ كَافِــر .
وقال : فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ كَافِــر .
وقال : إنَّ أَهْلَ الإِفْكِ رَمَوْا عَائِشَةَ الْمُطَهَّرَةَ بِالْفَاحِشَةِ ، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ ، فَكُلُّ مَنْ سَبَّهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ ، وَمَنْ كَذَّبَ اللَّهَ فَهُوَ كَافِرٌ . فَهَذَا طَرِيقُ قَوْلِ مَالِكٍ . اهـ .

وتَبِعه الإمام القرطبي المالكي ( متوفّى سنة 671 هـ ) فإنه قال في تفسيره :
من قال إنه يَنْزِل الغيث غَدا وجَزَم فهو كَافِــر .
وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فهو كَافِــر.

وزاد القرطبي :
ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كَافِــر ؛ لأنه رَدّ نصّ القرآن .
وقال : فمن قال إن هناك طريقا آخر يُعرف بها أمْره ونهيه غير الرسل بحيث يُستغنى عن الرُّسُل فهو كَافِــر ، يُقْتَل ولا يُستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب !
وقال : ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قولهم : " مطرنا بنوء كذا وكذا " وأن نظيره فَعَل النجم كذا ، َوأن كل من نَسب إليه فِعلا فهو كَافِــر .

فهل كان الإمام مالك رحمه الله وأتباعه على مذهبه لا يتورّعون عن رمي أحد من أهل القبلة بالشِّرْك إذا كان مُستحقًا للوصف به ؟
وهل كانوا يتسرّعون في أحكامهم على الناس بأن ذلك الفعل أو القول شِـرك ؟!


وذلك ما يُرمَى به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ويُتَّهَم به !

وأنت ترى سبيل أهل السنة ، خاصة علماء المالكية ..

رابعا :
ما ذكروه عن جابر رضي الله عنه من أنه سُئل (أترمي أحداً من أهل القبلة بالشرك ؟
قال : معاذ الله أيكون ذلك ؟
أترميه بالكفر ؟
قال : لا يكون ذلك أبداً)
واستدلالهم به متضمّن لِجهالات !

أولها : أنهم عزو الحديث إلى مجمع الزوائد ، وهو ليس كِتاب رواية بِقَدْر ما هو كتاب تخريج .

ثانيها : أنهم لبّسوا على الناس بذلك ، وذلك أن الهيثمي أورد الحديث تحت عنوان :
باب لا يَكْفُر أحد مِن أهل القبلة بِذَنْب .

ولم يَفْهَم منه أحد مِن علماء الأمة أنه لا يُمكن أن يقع أحد في الشرك ولا في الكُفر .

ثالثها : نَصُّه عند الهيثمي – الذي أحالوا عليه – كما يلي : وعن أبي سفيان قال : سألت جابرا وهو مجاور بمكة وهو نازل في بني فهر ، فسأله رجل : هل كنتم تدعون أحدا من أهل القبلة مشركا ؟ قال : معاذ الله ، ففزع لذلك . قال : هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا ؟ قال : لا . قال الهيثمي : رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح . اهـ .

رابعها : أخذ ما يوافق أهواءهم وترك ما دلّ على خلافه ، وهذه عادة أهل الأهواء في الاستدلال .
فقد روى من الإمام اللالكائي طريق سليمان اليشكري قال : قلت لجابر بن عبد الله : أكنتم تَعُدّون الذَّنب شِرْكا ؟ قال : لا ، إلاَّ عبادة الأوثان ؟
وروى أبو يعلى من طريق أبي سفيان عن جابر رفعه قال : كان يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . فقلنا : يا رسول الله ، تخاف علينا وقد آمنا بما جئت به ؟ فقال : إن القلوب بين - وأشار الأعمش بإصبعين - .

فهذا صريح في أن المقصود أنه لا يُرمَى مسلم بِشِرْك أو كُـفْـر لأجل الوقوع في الذنب .

خامسها : أن ما جاء في قول جابر رضي الله عنه مُطابق لاعتقاد أهل السنة في أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بِذنب ، أي : في ارتكابها ، وليس في استحلالها ، فإن الإجماع مُنعقد على كُفر من استحل ما حرمّ الله .
ولذلك رواه الإمام اللالكائي في اعتقاد أهل السنة من أكثر من طريق .

وهذا هو اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب واعتقاد علماء المملكة أيضا .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته إلى أهل القصيم ما نصّه :
ولا أشهد لأحَدٍ من المسلمين بِجَنّة ولا نار إلاَّ مَن شَهِد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء ، ولا أُكَفِّر أحَدًا من المسلمين بِذَنْب ، ولا أُخْرِجُه مِن دائرة الإسلام . اهـ .
وهذا ما نصّ عليه الإمام الطحاوي في عقيدته التي تُدرّس في أكثر جامعات المملكة ، إذ يقول الإمام الطحاوي الحنفيّ ( المتوفّى 321 هـ) : ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بِذَنْب ما لَم يَسْتَحِلّه ... ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يَعفو عنهم ، ويدخلهم الجنة برحمته ، ولا نأمن عليهم ، ولا نشهد لهم بالجنة ، ونستغفر لمسيئهم ، ونخاف عليهم ولا نُقَنّطهم
. اهـ .

سادسها : أنه لا يُعرف عن الصحابة رضي الله عنهم التورّع في تكفير من كَفَر بالله ، بل جاءت عنهم النصوص الصحيحة والكثيرة في تكفير من كَفَر بالله ، وكم كان عمر رضي الله عنه يقول : دعني أضرب عُنقه ! في غير حادثة ، وقد تقدّمت أفعال الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب .

فهذه النصوص والنقول عن أئمة الإسلام ، وأكثر ما نقلت عن أئمة المالكية رحمهم الله ؛ لأن السؤال ورد من المغرب ، والمذهب الفقهي السائد في المغرب هو مذهب الإمام مالك رحمه الله .

وكم هم الذين يتمذهبون بمذهب إمام في الفقه ، يُخالفونه في العقائد وأصول الدّين !

وإني على يقين أنه لو خرج فيهم الإمام مالك أو من سار بِسَيْرِه كابن عبد البر أو ابن العربي أو القرطبي أو غيرهم من أئمة المالكية ، لَرَمَوْهم بـ " الوهابية " !

فمن هو الأولى بالوصف بِقِلّة العِلْم والعقل ؟!
أليسوا هم الذين قالوا : (ولكن من تحدث فالوهابية لا تعقل ما يقولون ولا يزنوا حديثهم وكلماتهم قبل القائها علينا لتصدمنا) ؟

فهل الذين تمسّكوا بما كان عليه الأئمة من زمن الصحابة فمن بعدهم إلى زمن الأئمة الأربعة إلى الأزمنة المتأخِّرة هم الذين لا يعقلون ؟ وهم الذين لا يَزِنُون حديثهم وكلماتهم ؟!

سبحان الله ! ما أشبه الليلة بالبارحة !

أمَا رُمِي خير البشر صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن ومجنون ؟
وصدق ورقة بن نوفل حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ . رواه البخاري ومسلم .

أمَا إنه ما مِن دعوة إلى نبذ الشرك وترك ما كان عليه الآباء من باطل ؛ إلا قُوبِلت بالعداوة والبغضاء !
وكذلك كانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، فإنه لم يدعُ إلى نفسه ، ولا إلى مذهب جديد ، ولا إلى دعوة يُخالف بها ما كان عليه أهل العلم ، إنما دعا إلى نبذ الشرك والخرافة ، وترك ما يُعبَد من دون الله .
ثم إن الشيخ رحمه الله لم ينتسب إلى غير السنة ، وإنما نَسَبه أعداؤه !
وأهل السنة لا يرضون بِنِسبَة إلى غير السُّنَّـة .. بينما أصحاب الدعوات والأحزاب ينتسبون إلى دعواتهم وأحزابهم !

خِتاما :

سبقت الإجابة عن
سؤال بخصوص دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وهل كان خارجيا ؟
http://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?t=3163

وعن سؤال آخر :
ما رأيكم بمن يقول : الأمة ليس فيها مشركين ، وأن جميع من فيها يدخلون الجنة ؟ وأن كل من أسلم يدخل الجنة ؟
http://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?t=2969

والله تعالى أعلم .

المجيب الشيخ/ عبدالرحمن السحيم
عضو مركز الدعوة والإرشاد


رد مع اقتباس