عرض مشاركة واحدة

نسمات الفجر
الصورة الرمزية نسمات الفجر

الهيئـة الإداريـة


رقم العضوية : 19
الإنتساب : Feb 2010
الدولة : السعودية
المشاركات : 3,356
بمعدل : 0.65 يوميا

نسمات الفجر غير متواجد حالياً عرض البوم صور نسمات الفجر


  مشاركة رقم : 2  
كاتب الموضوع : محب السلف المنتدى : قسـم العقـيدة والـتوحيد
افتراضي
قديم بتاريخ : 07-01-2014 الساعة : 10:26 PM

الجواب :

وجزاك الله خيرا

أولاً : نحن أمة لا تُعظِّم إلاَّ ما عظّمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
والأصل في ذلك نَهْيُه عليه الصلاة والسلام عن زخرفة المساجد ، وقوله عليه الصلاة والسلام : مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ . رواه أبو داود بإسناد صحيح .

ونحن نقْتَدِي ولا نبتدي ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه .
أي : نتّبِع ولا نبتدِع .

ولم تأتِ الشريعة بتعظيم الآثار ولا بِتعظيم القبور ، بل ولا بالغلو بالْمخلوقين ، وإنما جاءت الشريعة بالنهي عن تعظيم القبور ، ومن ذلك بناء المساجد عليها ، وكذلك بناء القبب والأضرحة .
قال الإمام القرطبي المالكي ( المتوفَّى سنة 671 هـ ) : اتِّخَاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها ، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهى عنه ممنوع لا يجوز ، لِمَا رَوى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّارَات القبور والْمُتَّخِذِين عليها المساجد والسُّرُج . قال الترمذي : وفى الباب عن أبى هريرة وعائشة . حديث ابن عباس حديث حسن .
وقال أيضا : يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد .
وروى الأئمة عن أبى مرثد الغنوي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " . لفظ مسلم .
أي : لا تتخذوها قِبلة فتُصُلُّوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى ، فيؤدى إلى عبادة من فيها ، كما كان السبب في عبادة الأصنام .
فَحَذَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك ، وسَدّ الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال : " اشْتَدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ". اهـ .

وعلى هذا دَرَج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ، رغم شدّة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وصِدْقها ، ومع أنهم فَدَوه عليه الصلاة والسلام بالنّفس والنفيس ، إلاّ أنهم لم يغلو في شيء من آثاره .
وقد كان منهم من يحتفظ بشيء من أثر النبي صلى الله عليه وسلم مِن شَعْر أو لِباس تبرّكًا به ، أما ما عدا ذلك فلم يُعظِّموه ، كالأماكن التي مرّ بها عليه الصلاة والسلام ، أو المنازل التي نَزَلها ، أو الأماكن التي صلّى فيها أثناء سفره عليه الصلاة والسلام ، كما سيأتي عن الصحابة رضي الله عنهم ، وعن الإمام مالك رحمه الله .
ولقد حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتفاء أثر النبي صلى الله عليه وسلم واتِّبَاع سُنّته ؛ لأن ذلك هو دليل محبته صلى الله عليه وسلم في حقيقة الأمر ، دون الدعاوى !
ومن هذا المنطلق فإن عمر رضي الله عنه لَمَّا بَلَغه أن الناس يأتون الشجرة التي بُويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، أمَـر بِقطعها ، قَطعًا للفتنة ، وسَدًّا للذريعة .
فقد روى ابن أبي شيبة من طريق نافع قال بلغ عمر بن الخطاب أن ناسا يأتون الشجرة التي بُويع تحتها . قال : فأمر بها فَقُطِعَتْ .
وهذه الشجرة التي بُويع تحتها بيعة الرضوان في غزوة الحديبية .
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي : أرْسَل عمر فَطَمَس موضع الشجرة التي بايَع تحتها أصحاب الشجرة .

روى عبد الرزاق في " باب ما يقرأ في الصبح في السفر " من طريق المعرور بن سويد قال : كنت مع عمر بين مكة والمدينة فصلى بنا الفجر فقرأ (ألم تر كيف فعل ربك) و (لإيلاف قريش) ثم رأى أقواما يَنْزِلون فيُصَلُّون في مسجد ، فسأل عنهم ، فقالوا : مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا ، من مَـرّ بشيء من المساجد فحضرت الصلاة فليُصَلّ ، وإلا فَلْيَمْضِ .

ورواه سعيد بن منصور في سننه من طريق المعرور بن سويد قال : خرجنا معه [ يعني مع عُمر ] في حجة حَجَّها ، فقرأ بنا في الفجر بـ ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) و ( لإِيلافِ قُرَيْشٍ ) في الثانية ، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال : ما هذا ؟ قالوا : مسجد صَلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم ، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَـعًا ، من عَرَضَت له منكم فيه الصلاة فليُصَلّ ، ومن لم تَعْرِض له الصلاة فليمضِ .
وفي رواية عنه : أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال : أين يذهب هؤلاء؟ فقيل : يا أمير المؤمنين ، مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم يُصَلُّون فيه فقال : إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا ، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبِيَعًا ، فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ، ومن لا فليمض ولا يتعمدها .

ولم يُعظِّم الصحابة قبور الشهداء ، ولا آثار وأماكن الغزوات ، فأعظم نصر كان في أول الإسلام هو ما كان في يوم بدر ، ومع ذلك لم يُعرف عن أحد من الصحابة تعظيم مكان الغزوة ، ولا زيارته أو تعاهده .

وكذلك ما كان من آثار الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام .
وكذلك فَعَل الصحابة رضي الله عنهم مع قبر النبي دانيال عليه السلام .

فقد روى ابن أبي شيبة من طريق أبي عمران الجوني عن أنس أنهم لَمَّا فتحوا تستر قال : كانوا يستظهرون ويستمطرون به ، فكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فكتب عمر إنّ هذا نبي من الأنبياء ، والنار لا تأكل الأنبياء ، والأرض لا تأكل الأنبياء ، فكتب : أن انظر أنت وأصحابك - يعني أصحاب أبي موسى - فادفنوه في مكان لا يعلمه أحد غيركما . قال : فذهبت أنا وأبو موسى فَدَفَـنَّاه .
ورواه أبو عُبيد القاسم بن سلاّم في كتاب " الأموال " وتمام الرازي من طريق قتادة قال : لَمَّا فُتِحَت السوس وعليهم أبو موسى الأشعري وجدوا دانيال ، وإذا إلى جنبه مالٌ موضوع من شاء أن يستقرض منه إلى أجل ، فإن أتى به إلى ذلك الأجل وإلاَّ بَرِص . قال : فالتزمه أبو موسى وقَبَّلَه وقال : دانيال ورب الكعبة ، ثم كتب في شأنه إلى عمر ، فكتب إليه عمر : أن كفنه وحَنّطه وصَلّ عليه ، ثم ادفنه كما دُفِنت الأنبياء ، وانظر ماله فاجعله في بيت مال المسلمين . قال : فَكَفَّنَه في قباطي وصَلى عليه ودفنه .

فلم يجعلوا مَالَه ولا شيئا من آثاره للناس ، بل دَفنوا جُثمانه وجَعلوا مَالَه في بيت مال المسلمين .

وفي رواية لابن أبي شيبة وابن عساكر في " تاريخ دمشق " من طريق مطرف بن مالك أنه قال : شهدت فتح تستر مع الأشعري قال : فأصبنا دانيال بالسوس قال : فكان أهل السوس إذا أسنّوا أخرجوه فاستقوا به ! ... قال : وأصبنا معه رَبْطَتَيْن مِن كِتَّان .
فماذا ترى فعل الصحابة ومن معهم بأثر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قال مُطرّف : وكان أول رجل وقع عليه من بلعنبر يقال له حُرقوص قال : أعطاه الأشعري الرَّبطتين وأعطاه مائتي درهم قال : ثم إنه طلب إليه الربطتين بعد ذلك فأبى أن يَرُدّهما وشَقّها عمائم بين أصحابه !

قال ابن كثير في تفسيره : وقد رُوينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لَمَّا وَجَد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمَر أن يُخْفَى عن الناس ، وأن تُدْفَن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها .

وروى أبو يعلى ومن طريقه الخطيب البغدادي في " تقييد العلم " والضياء في " المختارة " ، وروى ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق خالد بن عرفطة قال : كنت عند عمر ابن الخطاب إذ أُتِي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس ، فقال له عمر : أنت فلان ابن فلان العبدي ؟ قال : نعم . قال : وأنت النازل بالسوس ؟ فضربه بقناة معه ، فقال العبدي : ما لي ؟ فقرأ عليه : (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) إلى قوله : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) ، فقرأها عليه ثلاث مرات ، فَضَرَبَه ثلاث مرات ! ثم قال له عمر : أنت الذي انْتَسَخْتَ كِتاب دانيال ؟ قال : نعم . قال : اذهب فامْحُه بِالحميم والصوف الأبيض ، ولا تَقْرأه ولا تُقْرئه أحدًا مِن الناس .

ورواه عبد الرزاق من طريق إبراهيم النخعي قال : كان بالكوفة رجل يطلب كتب دانيال وذاك الضَّرْب ، فجاء فيه كتاب من عمر بن الخطاب أن يُرْفَع إليه ، فقال الرجل : ما أدري فيما رُفِعْت ؟ فلما قَدِم على عمر عَلاه بالدِّرَّة ، ثم جعل يقرأ عليه (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) حتى بلغ : (لَمِنَ الْغَافِلِينَ) قال : فعرفت ما يريد ! فقلت : يا أمير المؤمنين دعني ، فو الله ما أدع عندي شيئا من تلك الكتب إلاَّ حَرقته . قال : ثم تركه .

قال ابن حجر : وهذه جميع طرق هذا الحديث وهي وإن لم يكن فيها ما يُحْتَجّ به لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلا . اهـ .

وتعظيم آثار الصالحين كان سبب الشرك في الأرض ، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عن " وُدّ ، وسُواع ، ويَغوث ، ويَعُوق ، ونسر " : أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ .

قال القرطبي المالكي ( المتوفّى سنة 671 هـ ) : قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأسَّوا برؤية تلك الصور ، ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ، ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم ، فَمَضَت لهم بذلك أزمان ، ثم أنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم ، ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها ، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك . وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك ، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . وقال : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " . اهـ .

ومما وقعت به بنو إسرائيل وضلّت بسببه : تعظيم الآثار !
ألا ترى إلى فعل السامري وما الذي حمله على ما فعل حتى جَعَل لِبني إسرائيل إلهـًا يُعبد من دون الله ؟
وما كان سبب ذلك إلاّ تعظيم الآثار ، كما قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام مع السامري : (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) .
قال الإمام السمعاني في تفسيره : يعني : مِن تُراب حَافِر فَرَس جِبريل .

وتعظيم الآثار مما أطبقت الأمة على إنكاره ، فقد أنكره علماء الأمة عامة ، وعلماء المالكية خاصة ، سواء في المغرب أو في الأندلس .

روى الإمام مالك بن أنس – صاحب المذهب المتبوع المشهور - عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم لا تجعل قبري وَثَنا يُعْبَد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .
قال الإمام ابن عبد البر المالكي ( المتوفّى سنة 463 هـ ) : وليس فيه حُكم أكثر من التحذير أن يُصَلّى إلى قبره ، وأن يُتَّخَذ مَسْجِدًا . وفي ذلك أمْر بأن لا يُعْبَد إلاَّ الله وحده . وإذا مُنِع من ذلك في قبره فسائر آثاره أحْرَى بذلك .
قال : وقد كَرِه مَالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بُويع تحتها بيعة الرضوان ، وذلك - والله أعلم - مُخَالَفَة لِمَا سَلَكه اليهود والنصارى في مثل ذلك . اهـ .

وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي ( المتوفَّى سنة 530 هـ) ، وهو في الأصل من علماء الأندلس ، ومن فقهاء المالكية :
وروى محمد بن وضاح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمَر بِقَطْع الشجرة التي بُويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الناس كانوا يَذْهَبُون إليها ، فَخَاف عُمَر رضي الله عنه الفتنة عليهم .
قال : وكان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون تلك المساجد وتلك الآثار التي في المدينة ما عدا قباء وأُحُدًا .
ودخل سفيان الثوري رحمه الله تعالى ببيت المقدس فصلى فيه ولم يتَّبِع تلك الآثار والصلاة فيها .
وكذلك فعل غيره أيضا ممن يُقْتَدى به .
قال محمد بن وَضَّاح : كم مِن أمْرٍ هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان مُنْكَرًا عند من مَضى ، وكم مُتَحَبِّبٍ إلى الله تعالى بما يُبْغِضُه الله تعالى عليه ، ومُتَقَرِّب إلى الله تعالى بما يُبْعِده منه ، وكل بدعة عليها زِينة وبَهْجَة . اهـ .

ونَقَله أبو شامة الشافعي ( المتوفَّى سنة 665 هـ) في " كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث " .

وابن وضّاح مالكي المذهب ، وهو مُحدِّث الأندلس في زمانه . توفِّي سنة 287 هـ .

ولم يكن من شأن الصحابة تعظيم الآثار ، ولَمَّا لم يكن لتلك الآثار مَنْزِلة في الشريعة لم يتكفّل الله بِحفظها .

فقد روى البخاري في صحيحه من طريق طَارِق بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : انْطَلَقْتُ حَاجًّا فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ قُلْتُ : مَا هَذَا الْمَسْجِدُ ؟ قَالُوا : هَذِهِ الشَّجَرَةُ حَيْثُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ ، فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ . قَالَ : فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ نَسِينَاهَا فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا فَقَالَ سَعِيدٌ : إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ ؟ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ .
قال ابن حجر : قال سعيدٌ هذا الكلام مُنْكِرا ، وقوله : " فأنتم أعلم " هو على سبيل الـتَّهَكُّم . اهـ .

وهذا مما يدلّ على أن الصحابة رضي الله عنهم لم تكن لهم عناية بالآثار من الأماكن وغيرها .
فقد روى البخاري من طريق سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُ الشَّجَرَةَ ثُمَّ أَتَيْتُهَا بَعْدُ فَلَمْ أَعْرِفْهَا .

فإذا كانت تلك الآثار قد اندرست منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم فما بالك بها بعد ذلك ؟

وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم قد حرصوا على إزالة تلك الآثار التي يفتتن بها بعض الناس ، فهل ترى لها باقية ؟!

وهل نحن أشدّ حرصا من الصحابة رضي الله عنهم على آثار النبي صلى الله عليه وسلم ، مع شِدّة محبّتهم له عليه الصلاة والسلام ؟


ومع ذلك لا يُعرف عنهم تعظيم لتلك الآثار ولا الأماكن التي نَزَلها النبي صلى الله عليه وسلم ، أو حتى التي صلّى فيها يومًا على الطريق ، بل عُرِف عنهم ضِدّ ذلك كما تقدّم عن عمر رضي الله عنه وعن غيره من إنكار قصد تلك الأماكن وتقصّد إتيانها .
هذا مع عدم غُلوّ الصحابة رضي الله عنهم بتلك الآثار ، إنما كان منهم النَّزول حيث نَزَل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو الصلاة حيث صلّى فَحَسب ، ومع ذلك أنكره عمر والأئمة من بعده ، فكيف لو رأى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ما وقع بعدهم من الغلو في آثار الصالحين فضلا عن آثار الأنبياء ؟
وقد نَقَل قال أبو شامة الشافعي ( ت 665 هـ ) عن الإمام الْحَلَيمي رحمه الله أنه نقل عن بعض أهل العلم أنه نَهى عن إلْصَاق البطن والظهر بِجدار القبر ومسحه باليد ، وذَكَر أن ذلك مِن البِدَع .
فإذا كان العلماء منعوا ذلك في قبره صلى الله عليه وسلم وفيه جسده الشريف الطاهر صلى الله عليه وسلم ، فكيف بغيره من آثاره صلى الله عليه وسلم ؟

ومن هنا فإن العلماء يرون إزالة وإتلاف الأشجار التي يَعْتَقِد فيها العوام مهما كانت نسبتها .

قال أبو شامة الشافعي رحمه الله : وُجوب قَطْع الشجرة التي يعتقد فيها العوام !
ثم نَقَل عن أبي بكر الطرطوشي المالكي رحمه الله ( ت 530 هـ ) قوله : فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سِدرة أو شجرة يَقصدها الناس ، ويُعَظِّمُون مِن شأنها ويَرجون البُرء والشفاء مِن قِبَلِها ، ويَنوطُون بها المسامير والْخِرَق ! فاقطعوها ؛ فهي ذات أنواط !
قال أبو شامة :
قلت : ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو اسحق الجبيناني رحمه الله تعالى - أحد الصالحين ببلاد إفريقية في المائة الرابعة - حَكَى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية ! كانت العامة قد افتتنوا بها ، يأتونها من الآفاق ، مَن تَعَذَّر عليها نكاح أو ولد ! قالت : امضوا بي إلى العافية ! فتعرف بها الفتنة . قال أبو عبد الله : فأنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت آذان إساحق نحوها ، فخرجت فوجدته قد هَدَمَها وأذَّن الصبح عليها ، ثم قال : اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا ! قال : فما رُفِع لها رأس إلى الآن . اهـ .

فهل كانت أفعال أولئك الأخيار في نظر هؤلاء جرائم ؟!

سبحانك هذا بُهتان عظيم !

ثانيا : ما يُزعم أنه جرائم في حق الآثار النبوية ، إنما هو تهويل وكذب !
ومثله ما نُسِب على الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، فإنه لم يَدْع هو ولا غيره إلى نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما دعا إلى أن يكون بيت النبي صلى الله عليه وسلم كَما كان في زمن الصحابة ، فإنه لم يكن داخل المسجد ؛ وذلك لأن بيته عليه الصلاة والسلام كان بِجوار المسجد ، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما دُفِن في بيته ولم يُدفَن في المسجد ابتداء .
وفرق بين أن يُدْعى إلى نبش القبر وإخراج الجثمان ، وبين أن يُدْعَى إلى إخراج القبر وإبقائه كما كان في زمن الصحابة رضي الله عنهم .
فالأول ممنوع ، ولم يقُل به أحد ، والثاني يُقال به من باب حماية جناب التوحيد .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
وها هو النبي عليه الصلاة والسلام يموت من أصحابه من يموت من أهل العلم والإيمان والجهاد ولم يكن يدفنهم إلا في المقبرة مع المسلمين ، ولولا أنه عليه الصلاة والسلام خَشِي أن يُتَّخَذ قبره مسجداً لدُفِن في البقيع ، ولكنه عليه الصلاة والسلام دُفِن حيث قُبض في بيت عائشة رضي الله عنها ، ولم يكن إذ ذاك داخل المسجد بل كان خارجاً منه ، ولم تدخل بيوت الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد إلاَّ في حدود السنة الرابعة والتسعين من الهجرة حيث زِيد في المسجد فأُدْخِلَت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، وبقي بيت عائشة رضي الله عنها الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر رضي الله عنهما بَقِي على ما هو عليه بناية مستقلة ، فهي مستثناةٌ من المسجد لكونها مستقلة سابقة على إدخالها إلى المسجد ، ولم يُبْنَ المسجد عليها . اهـ .

وعلى ذلك فمن قال بِتجريم من أزال الآثار يلزمه تجريم الصحابة فمن بعدهم من أهل العلم الذين أمروا بإزالة تلك الآثار ! سواء كانت من آثار الأنبياء أو من آثار الصالحين .

ثالثا : ما قيل من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَخَف على أمته الشرك ، ليس بصحيح على إطلاقه ، ونصوص الوحيين دالة على خلاف ذلك القول .
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) الآية .
قال ابن كثير : أي : يَرْجِع عن الحق إلى الباطل .
ونَقَل البغوي عن الحسن قوله : عَلِم الله تبارك وتعالى أن قومًا يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فأخبر أنه سيأتي بقوم يُحِبُّهم الله ويحبونه . واختلفوا في أولئك القوم من هم ؟ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وقتادة : هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرِّدة ومَانِعي الزكاة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قُبِض ارتد عامة العرب إلاَّ أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس ، ومنع بعضهم الزكاة ، وهَـمَّ أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم فَكَرِه ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال عمر رضي الله عنه : كيف نُقَاتِل الناس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أُمِرْت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله عَصَم مِنِّي ماله ونفسه إلاَّ بِحَقِّه وحِسَابُه على الله عز وجل ؟ فقال أبو بكر : والله لأقاتلن مَن فَرَّق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها .
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : كَرِهَت الصحابة قتال مانعي الزكاة ، وقالوا : أهل القبلة ، فَتَقَلَّد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بُدًّا من الخروج على أثره .
قال ابن مسعود : كَرِهنا ذلك في الابتداء ثم حَمْدِناه عليه في الانتهاء . اهـ . وقد ذَكَر البغوي بقية الأقوال في الآية في المراد بالأقوام الذين يأتي الله بهم .

وقال الإمام القرطبي المالكي في تفسيره : وهذا من إعجاز القرآن ، والنبي صلى الله عليه وسلم إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده ، وكان ذلك غَيْبًا ، فكان على ما أخبر بعد مدة ، وأهل الردة كانوا بعد موته صلى الله عليه وسلم . اهـ .
وسيأتي مزيد بيان حول الرّدّة وحُكمها .

وقال سبحانه وتعالى : (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
قال ابن كثير في تفسيره : تشديد لأمر الشرك ، وتغليظ لشأنه ، وتعظيم لملابسته . اهـ .
وهذا دالّ على أن الشِّرْك مما يُخشى ويُحاذَر ، وانه واقع في هذه الأمة .

وقال عزّ وَجَلّ : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
قال الإمام البغوي في تفسيره : وهذا خطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره . وقيل : هذا أدب من الله عز وجل لِنَبِيِّه وتهديد لغيره ؛ لأن الله تعالى عَصَمه مِن الشِّرك . اهـ .

وماذا عساهم يقولون عن الآيات التي جاء فيها ذِكر الكُفر بعد الإيمان ؟
كقوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)
وكقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)
وكقوله عزّ وَجَلّ : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .

وماذا عساهم أن يقولوا عن الآيات التي جاء فيها وصف الشِّرْك ،وذِكر الشّرْك والتحذير منه ؟
كقوله : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)
وكقوله عزّ وَجَلّ : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا) .
وكقوله سبحانه وتعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) .
وقوله عزّ وَجَلّ : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) .
وقوله جَلَّ جَلاله : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .
وهذه الآيات من سورة الأنعام قال عنها ترجمان القرآن – ابن عباس رضي الله عنهما - : مُحكمَات ، أي : أنه لم يُنسخ منها شيء .
وهو في معنى قول ابن مسعود السابق ، أي : كأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وقد أوصى بهذه الوصايا التي في الآيات من آخر سورة الأنعام ، وأنه لم يُنسخ منها شيء ، مع أن مسائل الاعتقاد لا تُنسخ .
فقد نصّ الإمام القرطبي المالكي في تفسيره على أن الأخبار لا يدخلها النسخ .

فأنت ترى هذه الآيات تنصّ على أن الشرك والرِّدّة مما يُخاف ، ولذلك جاءت فيه النصوص على سبيل التهديد .

وحَفلَت السنة بالنصوص الصحيحة الصريحة في أن الشرك مما يُخاف ، ومثله النفاق .
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكْثِر أن يقول : يا مقلب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك وطاعتك . فقيل له : يا رسول الله ! إنك تُكْثِر أن تقول : يا مقلب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك وطاعتك . قال : وما يُؤمِّنني ؟ وإنما قلوب العباد بين أصبعي الرحمن ، إنه إذا أراد أن يُقَلِّب قَلْب عَبْد قَلَبه . قال عفان : بين إصبعين من أصابع الله عز وجل . رواه الإمام أحمد .

وكيف لا يخاف صلى الله عليه وسلم على أمته الشرك ، وهو قد أخبر أن أخوف ما يخاف على أمته الشرك ؟

قال عليه الصلاة والسلام : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر . قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء . إن الله تبارك وتعالى يقول يوم تُجَازَى العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تُراءون بأعمالكم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟ رواه الإمام أحمد .

وكيف لا يخاف صلى الله عليه وسلم على أمته الشرك ، وهو قد أخبر أن الشرك واقع في هذه الأمة حتى تعبد فِئام منها الأصنام ؟!

ففي الصحيحين من حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ . وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .
وهذا الحديث بوّب عليه الإمام البخاري في صحيحه : بَاب تَغْيِيرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الأَوْثَانُ .

وكيف لا يخاف النبي صلى الله عليه وسلم الشرك على أمته وقد كان يُبايع أصحابه رضي الله عنهم على أن لا يُشركوا بالله شيئا ؟
ففي موطأ الإمام مالك من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا ؛ يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ .

وهو في صحيح مسلم بِلَفْظ : إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا ، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا ؛ فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ .

وفي حديث عَوْف بن مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : فَعَلامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ : عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ . رواه مسلم .

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يَخَف على أمته الشرك فَلِم كان يُبايِع أصحابه على أن لا يُشرِكوا بالله شيئا ؟

وأما ما استدلّوا به من قوله عليه الصلاة والسلام : " وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي " .
فليس فيه مُسْتَمْسَك لهم ؛ لأنه محمول على مجموع الأمَّـة ، كما نصّ عليه شُرّاح الحديث .

قال النووي في شرح هذا الحديث : وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُعْجِزَات لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الإِخْبَار بِأَنَّ أُمَّته تَمْلِكُ خَزَائِن الأَرْض ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ ، وَأَنَّهَا لا تَرْتَدُّ جُمْلَة ، وَقَدْ عَصَمَهَا اللَّه تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ .

وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث :
قَوْله : " مَا أَخَاف عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا " أَيْ : عَلَى مَجْمُوعكُمْ ، لأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنْ الْبَعْض أَعَاذَنَا اللَّه تَعَالَى . اهـ .

أقول : ويُمكن حمله على الْمُخاطَبِين به ، وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم ؛ لأن الله قد زكّاهم وزكّاهم رسوله صلى الله عليه وسلم ، ووعدهم الله المغفرة ، كما قال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) إلى أن قوله : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)
" وقد يُخَصَّص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بِوَعْد المغفرة تفضيلاً لهم ، وإن وَعَد الله جميع المؤمنين المغفرة " ، كما قال القرطبي .

ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ "
فليس لهم فيه أدنى استدلال على أن الشرك لا يقع في هذه الأمة ، وذلك من عدة أوجه :

الأول : أن أمة الإسلام لا تحصرها جزيرة العرب ، ونص الحديث " أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " ، وهذا لا يعني أن لا يقع الشرك في غيرها .

الثاني : أن هذا خاص بالْمُصَلِّين ، وهذا أيضا دالّ عليه نص الحديث : " أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ " ، ومعنى هذا أن غير الْمُصَلِّين ليسوا في أمان من الشرك ، وهذا يتوافق مع قوله عليه الصلاة والسلام : بين الرجل وبين الشرك والكفر تَـرْك الصلاة . رواه مسلم .
فتارك الصلاة واقع في الشرك أو في الكفر ، وسأذكر بعد قليل بعض أقوال الصحابة في ذلك .

يُتبَـع الجواب

رد مع اقتباس