منتديات الإرشاد للفتاوى الشرعية

منتديات الإرشاد للفتاوى الشرعية (http://al-ershaad.net/vb4/index.php)
-   قسم الخُطب المنبرية (http://al-ershaad.net/vb4/forumdisplay.php?f=44)
-   -   خُطبة عن (آفاتٍ في النفوس) (http://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?t=13051)

نسمات الفجر 17-03-2015 05:15 AM

خُطبة عن (آفاتٍ في النفوس)
 
الحمدُ للهِ الذِيْ أَنْزَلَ كِتَابَهُ تَذْكِرةً لأصْحَابِ الْخَشيةِ

قَالَ ابنُ كَثيرٍ في قولِهِ تَعَالى : (إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) : إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَبَعَثَ رُسُلَهُ رَحْمَةً رَحِمَ بِهَا الْعِبَادَ ، لِيَتَذَكَّرَ ذَاكِرٌ ، وَيَنْتَفِعَ رَجُلٌ بِمَا سَمِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ حَلالَهُ وَحَرَامَه . اهـ .

أيُّها المؤمِنونَ
الْمُؤمِنُ مَنْ يُحسِنُ الظنَّ بِربِّهِ ، ويُحسِنُ الظَنَّ بالمسلمينَ ، مَا لمْ يَظْهِرْ لَهُ مِنْ بَعْضِهِمْ خِلافَ ذَلِكَ .
والعَاقِلُ مَنْ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ عَلَى الدَّوامِ ، ويَلْتَمِسُ لإخوانِهِ الأعذارَ ..
أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَأَى رَجُلا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ : أَسَرَقْتَ ؟ قَالَ : كَلاّ وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ ، فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي . رَوَاهُ البخاريُّ .

قَالَ ابنُ الجوزيِّ رَحِمَهُ اللهُ : في بيانِ تحريمِ الغيبةِ بِالقَلْبِ :
اعْلَمْ أنَّ غيبةَ القَلْبِ سُوءُ ظَـنِّهِ بِالمسلمين .
والظَنُّ مَا تَرْكَنُ إليه النَّفْسُ ويَميلُ إليه القَلْبُ . ولَيْسَ لَكَ أنْ تَظُنَّ بِالْمُسْلِمِ شَرًّا إلاَّ إذا انْكَشَفَ أَمْرٌ لا يَحْتَمِلُ التأويلَ ... وَمَتَى خَطَرَ لكَ خاطِرُ سوءٍ عَلَى مُسلِمٍ ، فَيَنْبَغِي أنْ تَزيدَ فِي مراعاتِهِ وَتَدْعُوَ لَهُ بِالخيرِ ، فإنَّ ذلِكَ يَغيظُ الشيطانَ ويَدْفَعُهُ عَنْكَ ، فَلا يُلْقِي إليكَ خَاطِرَ السوءِ خِيفةً مِنْ اشتغالِكَ بِالدُّعَاءِ والمراعَاةِ .
وإذا تَحققتَ هَفوةُ مُسلِمٍ، فَانْصَحَهُ في السِّرِ .
واعْلَمْ: أنَّ مِنْ ثَمَراتِ سُوءِ الظنِّ التَّجَسّسَ ، فَإنَّ القلبَ لا يقنَعُ بِالظَنَّ ، بَلْ يَطْلَبُ التحقيقَ فَيَشْتَغِلَ بالتَّجَسُسِ ، وذلِكَ مَنهيٌّ عَنْهُ، لأنَّهُ يُوصِلُ إلى هَتْكِ سِترِ الْمُسْلِمِ ، ولَوْ لم يَنكشِفْ لَكَ ، كَانَ قَلْبُكَ أسْلَمَ للمُسْلِمِ . اهـ .

ومِنْ آفاتِ النفوسِ : إخراجُ الغيبَةِ بِقَوالِبَ شَتّى ! وَتَحْسينُهَا وَتَزيينُهَا للنَّفْسِ لِتَكَونَ مُستساغَةً .
قَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : مِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ شَتَّى . تَارَةً فِي قَالَبِ دِيَانَةٍ وَصَلاحٍ ، فَيَقُولُ : لَيْسَ لِي عَادَةً أَنْ أَذْكُرَ أَحَدًا إلاَّ بِخَيْرِ وَلا أُحِبُّ الْغِيبَةَ وَلا الْكَذِبَ ؛ وَإِنَّمَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحْوَالِهِ . وَيَقُولُ : وَاَللَّهِ إنَّهُ مِسْكِينٌ أَوْ رَجُلٌ جَيِّدٌ ؛ وَلَكِنْ فِيهِ كَيْت وَكَيْت . وَرُبَّمَا يَقُولُ : دَعُونَا مِنْهُ ، اللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ ؛ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ اسْتِنْقَاصُهُ وَهَضْمٌ لِجَانِبِهِ .
وَيُخْرِجُونَ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ صَلاحٍ وَدِيَانَةٍ يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ كَمَا يُخَادِعُونَ مَخْلُوقًا ؛ وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْهُمْ أَلْوَانًا كَثِيرَةً مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْفَعُ غَيْرَهُ رِيَاءً فَيَرْفَعُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ : لَوْ دَعَوْتُ الْبَارِحَةَ فِي صَلاتِي لِفُلانٍ ؛ لَمَا بَلَغَنِي عَنْهُ كَيْت وَكَيْت ؛ لِيَرْفَعَ نَفْسَهُ وَيَضَعَهُ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ .
أَوْ يَقُولُ : فُلانٌ بَلِيدُ الذِّهْنِ قَلِيلُ الْفَهْمِ ؛ وَقَصْدُهُ مَدْحُ نَفْسِهِ وَإِثْبَاتُ مَعْرِفَتِهِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ الْحَسَدُ عَلَى الْغِيبَةِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَبِيحَيْنِ : الْغِيبَةِ وَالْحَسَدِ .
وَإِذَا أُثْنِي عَلَى شَخْصٍ أَزَالَ ذَلِكَ عَنْهُ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ تَنَقُّصِهِ فِي قَالَبِ دِينٍ وَصَلاحٍ أَوْ فِي قَالَبِ حَسَدٍ وَفُجُورٍ وَقَدْحٍ لِيُسْقِطَ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَالَبِ تمسْخُرٍ وَلَعِبٍ، لَيُضْحِكَ غَيْرَهُ بِاسْتِهْزَائِهِ وَمُحَاكَاتِهِ وَاسْتِصْغَارِ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَالَبِ التَّعَجُّبِ ، فَيَقُولُ : تَعَجَّبْتث مِنْ فُلانٍ كَيْفَ لا يَفْعَلُ كَيْت وَكَيْت ، وَمِنْ فُلانٍ كَيْفَ وَقَعَ مِنْهُ كَيْت وَكَيْت وَكَيْفَ فَعَلَ كَيْت وَكَيْت ؟ فَيُخْرِجُ اسْمَهُ فِي مَعْرِضِ تَعَجُّبِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الاغْتِمَامَ فَيَقُولُ : مِسْكِينٌ فُلانٌ غَمَّنِي مَا جَرَى لَهُ وَمَا تَمَّ لَهُ ، فَيَظُنُّ مَنْ يَسْمَعُهُ أَنَّهُ يَغْتَمُّ لَهُ وَيَتَأَسَّفُ ، وَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى التَّشَفِّي بِهِ ، وَلَوْ قَدَرَ لَزَادَ عَلَى مَا بِهِ ! وَرُبَّمَا يَذْكُرُهُ عِنْدَ أَعْدَائِهِ لِيَشْتَفُوا بِهِ .
وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ أَعْظَمِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْمُخَادَعَاتِ لِلَّهِ وَلِخَلْقِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الْغِيبَةَ فِي قَالَبِ غَضَبٍ وَإِنْكَارِ مُنْكَرٍ ! فَيُظْهِرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْيَاءَ مِنْ زَخَارِفِ الْقَوْلِ ، وَقَصْدُهُ غَيْرُ مَا أَظْهَرَ . اهـ .

ومتى نَظَرَ الإنسانُ إلى نَفسِهِ بِعَينِ التزكيةِ حَمَلَهُ ذلِكَ عَلَى تعييرِ الناسِ والشماتَةِ بِهِمْ .

قَالَ ابنُ رَجَبٍ : وَمَنْ أَخْرَجَ التعييرَ وأظْهَرَ السُّوءَ وأشَاعَهُ في قَالَبِ النُّصْحِ ، وَزَعْم أنَّهُ إنَّمَا يَحمِلُهُ عَلَى ذلِكَ العيوبُ ، إمَّا عَامًّا أو خَاصًّا ، وَكَانَ في البَاطِنِ إنَّمَا غَرَضُهُ التعييرُ والأذَى ؛ فَهُوَ مِنْ إخْوَانِ المنافقينَ الذين ذَمَّهُمْ اللهُ في كتابِهِ في مواضِعَ ، فإنَّ اللهَ تَعَالى ذمَّ مَنْ أَظْهَرَ فِعْلاً أو قَولاً حَسَنا وَأَرَادَ بِهِ التوصُّلَ إلى غَرَضٍ فَاسِدٍ يَقْصِدُهُ في البَاطِنِ ، وعَدَّ ذَلِكَ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ ...
فَهَذِهِ الْخِصَالُ خِصَالُ اليهودِ والْمَنَافقِينَ ، وَهُوَ أنْ يُظْهِرَ الإنسانُ في الظاهِرِ قَولاً أوْ فِعْلاً ، وهُوَ في الصورةِ التي ظَهَرَ عَلَيْهَا حَسَنٌ ، وَمَقْصُودُهُ بِذلِكَ التوصُّلُ إلى غَرَضٍ فَاسِدٍ . اهـ .

وَرُبْمَا أَخْرَجَ بَعْضُ النَّاسِ ذمَّ غَيْرِهِ والتَّشَفِّي منْهُ بِقَالَبِ النَّصِيحَةِ ، وَقَدْ يُخْرِجُها آخَرُونَ بِقَالَبِ النَّصْحِ لِلأُمَّةِ ، أَوْ بِقَالَبِ عِلْمِ الْجَرْحِ والتَّجْرِيحِ !

وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ حَيْثُ يَقُولُ: مَنْ تَحَقَّقَ بِالْعُبُودِيَّةِ نَظَرَ أَفْعَالَهُ بِعَيْنِ الرِّيَاءِ ، وَأَحْوَالَهُ بِعَيْنِ الدَّعْوَى ، وَأَقْوَالَهُ بِعَيْنِ الافْتِرَاءِ . وَكُلَّمَا عَظُمَ الْمَطْلُوبُ فِي قَلْبِكَ ، صَغُرَتْ نَفْسُكَ عِنْدَكَ ، وَتَضَاءَلَتِ الْقِيمَةُ الَّتِي تَبْذُلُهَا فِي تَحْصِيلِهِ . انتهى مِنْ " مدارجِ السالِكينَ " .

قَالَ ابنُ القيِّمِ : فِي التَّعْيِيرِ ضَرْبٌ خَفِيٌّ مِنَ الشَّمَاتَةِ بِالْمُعَيَّرِ .. ثُمَّ ذَكَرَ مَا جَاءَ في الحديثِ "لا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ، فَيَرَحِمَهُ اللهُ وَيَبْتَلِيَكَ " ثُمَّ قَالَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ : أَنَّ تَعْيِيرَكَ لأَخِيكَ بِذَنْبِهِ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنْ ذَنْبِهِ ، وَأَشَدُّ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَوْلَةِ الطَّاعَةِ ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَشُكْرِهَا ، وَالْمُنَادَاةِ عَلَيْهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الذَّنْبِ ، وَأَنَّ أَخَاكَ بَاءَ بِهِ ، وَلَعَلَّ كَسْرَتَهُ بِذَنْبِهِ ، وَمَا أَحْدَثَ لَهُ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالإِزْرَاءِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مَرَضِ الدَّعْوَى وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ ، وَوُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ نَاكِسَ الرَّأْسِ ، خَاشِعَ الطَّرْفِ ، مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ ؛ أَنْفَعُ لَهُ ، وَخَيْرٌ مِنْ صَوْلَةِ طَاعَتِكَ ، وَتَكَثُّرِكَ بِهَا وَالاعْتِدَادِ بِهَا ، وَالْمِنَّةِ عَلَى اللَّهِ وَخَلْقِهِ بِهَا ، فَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْعَاصِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ! وَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْمُدِلَّ مِنْ مَقْتِ اللَّهِ ، فَذَنْبٌ تَذِلُّ بِهِ لَدَيْهِ ، أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَةٍ تُدِلُّ بِهَا عَلَيْهِ ، وَإِنَّكَ أَنْ تَبِيتَ نَائِمًا وَتُصْبِحَ نَادِمًا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبِيتَ قَائِمًا وَتُصْبِحَ مُعْجَبًا ... وَإِنَّكَ إِنْ تَضْحَكْ وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبْكِيَ وَأَنْتَ مُدِلٌّ ، وَأَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ الْمُدِلِّينَ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَسْقَاهُ بِهَذَا الذَّنْبِ دَوَاءً اسْتَخْرَجَ بِهِ دَاءً قَاتِلاً هُوَ فِيكَ وَلا تَشْعُرُ. اهـ .


الثانية :
الْحَمدُ للهِ يَهدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) .

أمَّا بَعْدُ :

فَأُوصيِكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عزَّ وَجَلّ .

أيُّها المؤمِنونَ :
كُونُوا على حَذَرٍ مِنْ مَدَاخِلِ النفوسِ ومَزَالِقِها

قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: سُوءُ حَمْلِ الْغِنَى يُورِثُ مَرَحًا , وَسُوءُ حَمْلِ الْفَاقَةِ يَضَعُ الشَّرَفَ , وَالْحَسَدُ دَاءٌ لَيْسَ لَهُ شِفَاءٌ , وَالشَّمَاتَةُ تُعْقِبُ النَّدَامَةَ .

وحَذَارِ مِنَ الشَّمَاتَةِ بِإخوانِكُمْ ، فإن الشماتةَ داءٌ كامِنٌ في النفوس ، وعُقُوبَتُها مُعَجَّلَة .
لَمَّا رَكِبَ ابنَ سِيرينَ الدَّيْنُ وحُبِسَ بِهِ قَالَ: إنِّي أَعْرِفُ الذَّنْبَ الذِيْ أَصَابَنِي هَذَا . عَيَّرتُ رَجُلاً مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ فَقُلْتُ لَهُ: يَا مُفْلِس .

ورُبما عُوجِلَ الشامِتُ بِالعقوبةِ !
حَكَى أَبُو فَرْوَةَ أَنَّ " طَارِقًا " صَاحِبَ شُرْطَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ مَرَّ بِابْنِ شُبْرُمَةَ وَطَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ ، فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ :
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تَخُبُّ كَأَنَّهَا = سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيبٍ تَقَشَّعُ
اللَّهُمَّ لِي دِينِي وَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ . فَاسْتُعْمِلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ : أَتَذْكُرُ قَوْلَك يَوْمَ كَذَا إذْ مَرَّ بِك طَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنَّهُمْ يَجِدُونَ مِثْلَ أَبِيك وَلا يَجِدُ أَبُوك مِثْلَهُمْ . إنَّ أَبَاك أَكَلَ مِنْ حَلاوَتِهِمْ ، فَحَطَّ فِي أَهْوَائِهِمْ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ :
أَمَا تَرَى هَذَا الدَّيِّنَ الْفَاضِلَ كَيْفَ عُوجِلَ بِالتَّقْرِيعِ وَقُوبِلَ بِالتَّوْبِيخِ مِنْ أَخَصِّ ذَوِيهِ، وَلَعَلَّهُ مِنْ أَبَرِّ بَنِيهِ. فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ أَطْلَقُ مِنْهُ عَنَانًا، وَأَقْلَقُ مِنْهُ جَنَانًا . إذَا رَمَقَتْنَا أَعْيُنُ الْمُتَتَبِّعِينَ، وَتَنَاوَلَتْنَا أَلْسُنُ الْمُتَعَتِّبِينَ. هَلْ نَجِدُ غَيْرَ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مَلاذًا، وَسِوَى عِصْمَتِهِ مَعَاذًا ؟
قال ابنُ القيِّم : وَمن بَكَّتَ بُكِّتَ بِهِ ، وَمَن ضَحِكَ مِن النَّاسِ ضُحِكَ مِنْهُ ، وَمَن عَيَّرَ أَخَاهُ بِعَمَلٍ ابْتُلِيَ بِهِ وَلا بُدّ . اهـ .

ومَنْ فَتَّشَ عَنْ عُيوبِ النَّاسِ فُتِّشَ عَنْ عُيوبِهِ
روى الْجُرْجَانِيُّ أن أحمدَ بَنَ الحسنَ بنِ هارُون قال : أدْرَكْتُ بِهذِه البَلْدَةِ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ ، فَسَكَتُوا عن عيوبِ الناس ، فنُسيَتْ عُيُوبُهم .
قال ابن رجب :
وقد رُوي عن بعضِ السلف أنه قال : أدْرَكْتُ قَومًا لم يَكن لهم عيوب ، فَذَكَرُوا عيوبَ الناسِ ، فَذَكَرَ الناسُ لهم عُيوبا ، وأدْرَكْتُ قوما كانت لهم عيوب ، فَكَفُّوا عن عيوبِ الناسِ فنُسِيتْ عيوبُهم . اهـ .
قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ : قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ : " وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَحَسَّسُوا " هُمَا لَفْظَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْبَحْثُ وَالتَّطَلُّبُ لِمَعَايِبِ النَّاسِ وَمَسَاوِيهِمْ ، إِذَا غَابَتْ وَاسْتَتَرَتْ لَمْ يَحِلَّ لأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا وَلا يَكْشِفَ عَنْ خَبَرِهَا. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : وَمِنْهُ لا يَلِي أَحَدُكُمُ اسْتِمَاعَ مَا يَقُولُ فِيهِ أَخُوهُ ... وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْغِيبَةِ أَوْ أَشَدَّ مِنَ الغيبةِ ، قَالَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ : (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) ، فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَرَدَا جَمِيعًا بِأَحْكَامِ هَذَا الْمَعْنَى . وَهُوَ قَدِ اسْتُسْهِلَ فِي زَمَانِنَا ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا حَلَّ بِنَا . اهـ .

أيُّها المؤمِنونَ :
اسْتَثْنَى العلماءُ مِنْ ذَلِكَ : الولاةَ الظَّلَمَةَ والوُزراءَ الْخَوَنةَ ، ومَن ألْقَى جِلْبَابَ الحياءِ .
قَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ : مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلا غِيبَةَ فِيهِ .
وقَالَ الإمامُ أحْمَدُ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَة .

وَحَدَّثَ ثابِتٌ البَنانيُّ فقَالَ : كُنْتُ عِنْدَ الْحَسَنِ رَحِمَهُ الله ، فَقَامَ إليه سَائلٌ ضَريرُ البَصَرِ ، فقَالَ : تَصَدّقُوا عَلَى مَنْ لاَ قائدَ لَهُ يَقودُهُ ، ولا بَصَرَ يَهديِهِ . فقَالَ الحَسَنُ : ذَاكَ صَاحِبُ هَذِه الدُّارِ ! - وأَشَارَ إلى دَارِه خَلْفَهُ ، يَعْني عبدَ اللهِ بِنَ زيادٍ - مَا كَانَ مِنْ جَميعِ حَشَمِهُ قَائدٌ يَقودُهُ إلى خَيْرٍ ، ولا يُشِيرُ عَلَيْهِ بِهِ ، وَلا كَانَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَهُ بَصَرٌ يُبْصِرُ بِهِ ويَنْتَفِعُ بِهِ . رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ في " الزُّهْدِ " .
ومِن هذا البابِ قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ عنِ الْحَجَّاجِ : لَوْ جاءتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِخبيثِهَا وجِئْنَا بالحجاجِ لَغَلَبْنَاهُمْ !
وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : إذا أَظْهَرَ الرَّجُلُ الْمُنْكَرَاتِ ، وَجَبَ الإنكارُ عَلَيْهِ عَلانيَةً ولَمْ يَبْقَ لَهُ غِيبةٌ ، ووَجَبَ أنْ يَعَاقَبَ عَلانِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ هَجْرٍ وَغَيرِهِ . اهـ .
قَالَ ابنُ مُفْلِحٍ : وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إنَّ الْمُظْهِرَ لِلْمُحَرَّمَاتِ تَجُوزُ غِيبَتُهُ بِلا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُخْتَارِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ : وَلا غِيبَةَ لِظَالِمٍ وَلا لِفَاسِقٍ . اهـ .
قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ: إذَا عُلِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْفُجُورُ أَنُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ ؟ قَالَ: لا ، بَلْ يُسْتَرُ عَلَيْهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ دَاعِيَةً . يَعني : إلى فُجُورِه .
قَالَ ابنُ مُفلِحٍ: وَيَتَوَجَّهُ أَنَّ فِي مَعْنَى الدَّاعِيَةِ: مَنْ اُشْتُهِرَ وَعُرِفَ بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَسَرَّ الْمَعْصِيَةَ . اهـ .

ولا يَعني أن يَسْتَرْسِلَ الإنسانُ في هذا البابِ ، فِإنَّ هَذَا الْمَهْيَعَ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ ، وَهُوَ وادٍ سَحِيقٌ ، قَالَ عَنْهُ ابنُ دَقيقٍ العِيدُ : أعراضُ المسلمينَ حُفْرةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ ، وَقَفَ عليها الْمُحَدِّثُون والْحُكَّام . اهـ .

استعيذوا باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِكِمْ ؛ فَقَدْ كَانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ في خُطَبِهِ : وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .
ومِنْ دُعائهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي .

اللهم قِنا شَرَّ وشُحَّ أنْفُسِنا .


الساعة الآن 11:35 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, by Sherif Youssef

يُشْترَطُ فِي حَالِ نَقْلِ الفَتَاوَى مِنْ مُنْتَدَياتِ الإرْشَادِ ذِكْرُ اِسْمِ فَضَيلةِ الشَيْخِ عَبْدِ الرَحمنِ السُحَيْمِ أَوْ ذِكْرُ اسْمِ المُنْتَدى