منتديات الإرشاد للفتاوى الشرعية

منتديات الإرشاد للفتاوى الشرعية (http://al-ershaad.net/vb4/index.php)
-   قسم الخُطب المنبرية (http://al-ershaad.net/vb4/forumdisplay.php?f=44)
-   -   خُطبة عن التوفيق (http://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?t=13471)

عبد الرحمن السحيم 08-08-2015 04:28 PM

خُطبة عن التوفيق
 

الْحَمدُ للهِ وليِّ التوفيقِ ، الهادي إلى أقومِ طريقٍ (
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .
قَالَ الزَّجَّاجُ: أي : دَلَّنِي على الدِّينِ الذي هُوَ دِينُ الحقِّ .

أيُّها المؤمنونَ:

إنَّ كُلَّ ما يَحصُلُ للعبدِ مِنْ خيرٍ إنِّما هوَ توفيقٌ خالِصٌ مِنَ اللهِ تعالى ، لا بِجِدِّ العَبْدِ ولا بِجَهْده ، ولا بِكَدِّه ، ولا بِعَقْلِه .
ولِذَا عَابَ اللهُ على مَنْ نسَبَ الخيرَ إلى نَفْسِهِ ، فقَالَ عزَّ وَجَلّ : (فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) .
فَكِلا الصِّنفينِ مَذْمُومٌ ؛ مَنْ قَالَ رَبِي أَكْرَمَنِ ، ومَنْ قَالَ ربي أهَانَنِ .

قال ابن القيم : أخبر سبحانه أنه يَبْتَلي عبدَه بإكْرَامِه له وبِتَنْعِيمه له وبَسْطِ الرزقِ عليه ، كما يَبْتَلِيهِ بتضييقِ الرزقِ وتقديرِه عليه ، وأنّ كَلَيْهِمَا ابتلاءٌ منه وامتحان ، ثم أنكر سبحانه على مَن زَعم أن بسطَ الرزقِ وتَوسِعتَه إكرامٌ من الله لعبدِه ، وأن تضييقَه عليه إهانةٌ منه له ، فقال : (كلا) أي : ليس الأمر كما يقول الإنسان ، بل قد أَبْتَلِي بِنِعْمَتِي وأُنْعِمُ بِبَلائي .
وإذا تأملت ألفاظ الآية وَجَدْتَ هذا المعنى يَلوحُ على صفحاتها ظاهرا للمتأمل . اهـ .

قَالَ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ : كَثِيرًا مَا كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : تَوْفِيقٌ قَلِيلٌ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ كَثِيرٍ .

أيُّها المؤمنونَ :
الْمُوفَّقُ في الجَنَّةِ .
قَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ : ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
والتوفيقُ فضْلٌ ورِزْقٌ .
قَالَ ابنُ عبدِ البرِّ : مَنْ صَحِبَهُ التَّوْفِيقُ أَغْنَاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ يَسِيرُهَا ، وَمِنَ الْمَوَاعِظِ قَلِيلُهَا إِذَا فَهِمَ وَاسْتَعْمَلَ مَا عَلِمَ . اهـ .

والْمُوفَّقُ مَنْ وُفِّقَ حتى في سؤالِهِ إذا سَألَ ؛ فَمِنْ توفيقِ اللهِ لِعبْدِهِ : أنْ يُوفَّقَ للسؤالِ عَمَّا يَنْفَعُهُ ، وأنْ يَشَتَغِلَ بِهِ .
عَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي سَفَرٍ ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا ، ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْ يَا مُحَمَّدُ ، أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ ، وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ ، قَالَ : فَكَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ ، ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ وُفِّقَ ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ ، قَالَ : كَيْفَ قُلْتَ ؟ قَالَ : فَأَعَادَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ . رَوَاهُ البخاريُّ ومسلِمٌ .

قَالَ ابنُ القيِّمِ عَنِ العِلْمِ وَتَحصيلِهِ :
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُحْرَمهُ لعَدَمِ حُسْنِ سؤالِه ، إما لأنَّهُ لا يَسألُ بِحَالٍ ، أوْ يَسألُ عَنْ شيءٍ وغيرُه أهمُّ إليه مِنْهُ ، كَمَنْ يَسألُ عَنْ فُضُولِه التي لا يَضرُّ جَهْلُه بِها، وَيَدَعُ مَا لا غِنى لَهُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ ، وَهَذِهِ حَالُ كَثيرٍ مِنَ الْجُهّالِ المتعلِّمينَ ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ يُحْرَمُهُ لِسُوءِ إنْصَاتِه ، فَيكونُ الكلامُ والمماراةُ آثَرَ عِنْدَهُ وأحَبَّ إليه مِنَ الإنصاتِ ، وهذِهَ آفةٌ كَامِنةٌ في أكثرِ النفوسِ الطَّالِبةِ للعِلْمِ ، وهِيَ تمنَعُهُم عِلْماً كَثيرا ، ولَوْ كَانَ حَسَنَ الفَهْمِ . اهـ .

أيُّها الكِرَامُ :
إنَّ للتوفيقِ أمَاراتٍ ودَلالاتٍ ، وللخِذلانِ عَلامات

وإنَّ مِنْ توفيقِ اللهِ لِعبدِهِ : أنْ يستعمِلَهُ في طاعتِهِ ، وأنْ يُجنِّبَهُ أسبابَ سَخَطِهِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسَدَّدَ لَيُدْرِكُ دَرَجَةَ الصَّوَّامِ الْقَوَّامِ بِآيَاتِ اللهِ، بِحُسْنِ خُلُقِهِ، وَكَرَمِ ضَرِيبَتِهِ . رَوَاهُ الإمامُ أَحمَدُ ، وهُوَ حديثٌ صَحيحٌ .
والْمُسَدَّدُ ، أي: الموفَّقُ للخيرِ والاستقامةِ على نَهْجِ الصوابِ.
وقولُهُ: "وَكَرَمِ ضَرِيبَتِهِ"، أيْ: وبِحُسنِ طبيعتِهِ وسجيّتِهِ .

فاللهم وفّقنا لِهُداك
قال الله تعالى على لسانِ شُعيب عليه الصلاة والسلام : (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ)
قال الإمامُ السمعانيُّ : وقوله : (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ) دليلٌ على أن الطاعةَ لا يُؤتَى بها إلاّ بتوفيقِ اللهِ ، والتوفيقُ مِن الله : هو التسهيلُ والتيسيرُ والمعونةُ . اهـ .

ومِنْ أظهَرِ علاماتِ التوفيقِ :
أن يُؤثِرَ رِضَا اللهِ ومُرادَهُ على هَوَى نَفْسِهِ وَرَغَباتِها .
قَالَ بَعضُهُم : الْمُوَفَّقُ مَنْ لا يَخَافُ غَيْرَ اللهِ ، وَلا يَرْجُو غَيْرَهُ , فَيُؤْثِرُ رِضَاهُ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ .

والْمُوفَّقُ مَنْ عَرَفَ ربَّهُ ، وعَرَفَ نَفْسَهُ ، فَلَمْ يَحمِلْهُ عَفَوُ ربِّهِ وكَرَمُهُ على ارتكابِ الْمَعَاصِي ، ومَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ لَمْ يَغْتَرَّ بِعَمَلِهِ .

قَالَ السمرقنديُّ : الإنسانُ لا يَخْلو مِنْ أربَعَةِ أحوالٍ : إمَّا أنْ يكونَ في الطاعةِ ، أو في المعصيةِ ، أو في النِّعمةِ ، أو في الشِّدةِ ؛ فإذا كَانَ في الطاعةِ ينبغي أنْ يَذْكَرَ اللهَ عزَّ وجلَّ بالإخلاصِ ، ويسألَهُ القبولَ والتوفيقَ . وإذا كَانَ في المعصيةِ يَنْبَغِي أنْ يَذكُرَ اللهَ عزَّ وجلَّ بالامتناعِ عَنْهَا ، ويَسألَ مِنْهُ التوبةَ مِنْهَا والمغفِرَةَ . وإذا كَانَ في النِّعمَةِ يَذْكُرُهُ بِالشُّكْرِ . وإذا كَانَ في الشِّدَّةِ يَذْكُرُهُ بِالصَّبْرِ . اهـ .

وقَالَ ابنُ رَجبٍ : فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ تَوْفِيقَ عَبْدٍ وَهِدَايَتَهُ أَعَانَهُ وَوَفَّقَهُ لِطَاعَتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ فَضْلا مِنْهُ، وَإِذَا أَرَادَ خِذْلانَ عَبْدٍ ، وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَأَغْوَاهُ الشَّيْطَانُ لِغَفْلَتِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَكَانَ ذَلِكَ عَدْلاً مِنْهُ، فَإِنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ عَلَى الْعَبْدِ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ، فَمَا بَقِيَ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ . اهـ .

ومِنْ أماراتِ التوفيقِ : أنْ يَشتَغِلَ الإنسانُ بِعُيوبِ نَفْسِهِ عَنْ عيوبِ غيرِهِ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ، وَزَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَهُ , وَمَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . رواه ابنُ أبي شيبة .

قَالَ ابنُ القيِّمِ : إذا أرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَهُ مُعْتَرِفًا بِذَنْبه ، مُمْسِكًا عَنْ ذَنْبِ غَيْرِهِ ، جوادا بِمَا عِنْدَهُ ، زاهِدًا فِيمَا عِنْدَ غيرِهِ ، مُحْتَمِلا لأذى غيرِهِ ، وإنْ أَرَادَ بِهِ شَرًّا عَكَسَ ذلِكَ عَلَيْهِ . اهـ .
ومِنْ أماراتِ التوفيقِ : أنْ يَهْتَمَّ الإنسانُ لآخِرتِه أكثرَ مِن اهتمامِهِ لِدُنياهُ .
فلو نَظَرَنَا في ساعاتِ أيامِنَا ، وفي أيامِ أعمارِنا ، وفي اهتماماتِنَا ؛ لبَكَى مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ .
قَالَ ابنُ الجوزيِّ : يَا طَوِيلَ الأملِ فِي قصيرِ الأَجَلِ ، أما رَأَيْتَ مُسْتَلَبًا وَمَا كَمُلَ . أتؤخِّرُ الإِنَابَةَ وتُعَجِّلُ الزللَ ؟
يَا مَن يَعُدُّ غَدًا لِتوبتِهِ ... أَعلَى يَقِينٍ مِنْ بُلُوغِ غَدِ
الْمَرْءُ فِي زَلَلٍ عَلَى أمَلٍ ... ومَنِيَّةُ الإِنْسَانِ بالرَّصدِ
أَيَّامُ عُمْرِكَ كُلّهَا عَدَدُ ... وَلَعَلَّ يَوْمَكَ آخِرُ الْعدَدِ

وقِلّة ُالتوفيقِ خِذلانٌ ، والذنوبُ مِنْ أعظَمِ أسبابِ الخِذلانِ

قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : قِلَّةُ التَّوْفِيقِ وَفَسَادُ الرَّأْيِ وَطَلَبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ مِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ .
وقَالَ أَبو عُثْمَانَ الْخَيَّاطُ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ يَقُولُ: ثَلاثَةٌ مِنَ عَلامَاتِ الْخِذْلانِ: الْوُقُوعُ فِي الذَّنْبِ مَعَ الْهَرَبِ مِنْهُ ، وَالامْتِنَاعُ مِنَ الْخَيْرِ مَعَ الاسْتِعْدَادِ لَهُ ، وَانْغِلاقُ بَابِ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ .

وقال ابنُ القيم : مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ [الله] وَهَانَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ، وَكُلَّمَا أَحْدَثَ ذَنْبًا أَحْدَثَ لَهُ نِعْمَةً، وَالْمَغْرُورُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَلا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ عَيْنُ الإِهَانَةِ ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ وَالْعُقُوبَةَ الَّتِي لا عَاقِبَةَ مَعَهَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ:"إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَنْهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا ، فَيَرِدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذُنُوبِهِ . اهـ .

الخطبة الثانية :

فَكَمَا أنَّ للتوفيقِ أماراتٍ ، فإنَّ للخِذلان علاماتٍ :

وأوَّلُ علاماتِ الخِذلانِ : أنْ يُوكَلَ العبدُ إلى نفْسِهِ وجُهدِه واختيارِه ، وذلِكَ بسببِ اعتِدادِهِ بِنفْسِهِ ، وثِقَتِه بِها .
وفي الْحَدِيثِ : " مَن تَعَلَّقَ شَيئا وُكِلَ إليه " رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ ، وحسَّنَهُ الألبانيُّ . وذلِكَ أنَّ القَلبَ متى اعتمَدَ على غيرِ اللهِ ورَكَنَ إليهِ وُكِلَ الإنسانُ إلى مَا وَثَقَ بِهِ ، أو إلى مَنِ اعتمَدَ عَلَيْهِ .
وفي الحديثِ الآخَرِ : " ولا تَكِلْنِي إلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَينٍ " والواثِقُ بِنفسِهِ مَوْكُولٌ إلى نَفسِهِ كما تَقَدَّمَ .

وسُئِلَ الشيخُ محمدُ بنُ إبراهيمَ عنْ قَولِ مَنْ قَالَ : "تَجِبُ الثِّقَةُ بالنَّفْسِ" فأجَابَ : لا تَجِبُ ، ولا تَجُوزُ الثِّقَةُ بالنَّفْسِ . في الحديثِ : ولا تَكِلْنِي إلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَينٍ .
قَالَ الشيخُ ابنُ قاسِمٍ مُعَلِّقًا عَلَيْهِ : وجَاءَ في حديثٍ رَوَاهُ أحمدُ : وأشْهَدُ أنَّكَ إنْ تَكِلْنِي إلى نَفْسِي تَكِلْنِي إلى ضَيْعَةٍ وعَوْرَةٍ وذَنْبٍ وخَطِيئةٍ ، وإني لا أثِقُ إلاَّ بِرَحْمَتِكَ . اهـ .
ولفظُ الحديثِ في مُسنَدِ أحمدَ : مَن قَالَ : اللهمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادةِ إني أعْهَدُ إلَيْكَ في هَذهِ الْحَيَاةِ الدُّنيا أنَّي أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلاَّ أنْتَ ، وحْدَكَ لا شَرِيكَ لَك َ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُك ورَسُولُك ، فإنَّكَ إنْ تَكِلْنِي إلى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ ، وتُبَاعِدْني مِنَ الْخَيرِ ، وإنِّي لا أثِقُ إلاَّ بِرَحْمَتِكَ ، فاجْعَلْ لي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوفِّينِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، إنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيْعَادَ؛ إلاَّ قَالَ اللهُ لِمَلائكَتِه يَوْمَ القِيَامَةِ : إنَّ عَبْدِي قَدْ عَهِدَ إليَّ عَهْدًا ، فَأوْفُوه إيَّاه ، فَيُدْخِلَهُ اللهُ الْجَنَّة .
ورَوَاهُ ابنُ أبي شيبةَ مِنْ قولِ ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي عَهْدٌ فَلْيَقُمْ . قَالَوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَعَلِّمْنَا، قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ عَهْدًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، إِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبُنِي مِنَ الشَّرِّ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ الْخَيْرِ ، وَأَنِّي لا أَثِقُ إِلاّ بِرَحْمَتِكَ ، فَاجْعَلْهُ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُؤَدِّيهِ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ .

وثانيِها : أن يُوكَلَ العبدُ إلى رُؤيَتِهِ ، فيَرى القبيحَ حَسَنا ، والحسنَ قَبِيحا .
سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ : مَا عَلامَةُ الْخِذْلانِ؟ قَالَ: أَنْ يَسْتَقْبِحَ الرَّجُلُ مَا كَانَ يَسْتَحْسِنُ ، وَيَسْتَحْسِنُ مَا كَانَ قَبِيحًا .
دَخَلَ أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه على حذيفةَ رضي الله عنه ، فقال : أوْصِنا يا أبا عبد الله ، فقال حذيفةُ : أما جاءك اليقين ؟ قال : بلى وربي ، قال : فإن الضلالة حَقّ الضلالة : أن تَعْرِف اليوم ما كُنْتَ تُنْكِر قبل اليوم ، وأن تُنْكِر اليوم ما كنت تَعْرِف قبلَ اليوم ، وإياك والتَّلَوُّن ، فإن دِينَ اللهِ واحد . رواه عبد الرزاق .

وثالثُهَا : أن يُوكَلَ العبدُ إلى اختيارِهِ ، إذا تَرَكَ الكتابَ والسُّنةَ ، ونَابَذَ أهلَ العِلْمِ ، واعْتَدَّ بِنفْسِهِ .
ومِنْ أعْظَمِ الخِذلانِ : هجرانُ الكتابِ ، وَرَدُّ أحاديثِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ الإمامُ أحمدُ : مَنْ ردَّ حديثَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ على شَفَا هلَكَةٍ .
وَجَاءَ رَجَلٌ إلى الإمامِ مالكِ بنِ أنسٍ فسألَهُ ، فقَالَ : قَالَ رسولُ اللهِ كَذَا ، فقَالَ : أرأيتَ لَوْ كَانَ كَذَا ؟ قَالَ الإمامُ مَالِكٌ : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فقَالَ مالِكٌ : أوَ كُلَّما جَاءَ رجلٌ أجْدَلُ مِن الآخَرِ رُدَّ ما أنْزَلَ جبريلُ على محمدٍ ؟!

وقَالَ ابنُ حِبَّانَ في ترجمةِ مَحمدِ بنِ كَرَّامٍ : خُذِلَ حتى الْتَقَطَ مِنَ المذاهِبِ أردَاهَا ، ومِنَ الأحاديثِ أوْهَاهَا .

ورابِعُها : أنْ يَنسبَ الأشياءَ إلى ذكائِهِ وخِبرتِهِ وقُدرَتِهِ ؛ فيُخذَلَ .
والمتأمِّلُ في أحوالِ مَنْ زَلُّوا ، وفارَقُوا السُّنّةَ وَضَلُّوا ؛ يَرى أنَّهُ غَرَّهُمْ ذكاؤهُم ، ونَظَرُوا إلى أنفسِهِمْ بِعينِ العُجبِ .
قَالَ ابْنُ أَرْسَلاَنَ فِي ترجمةِ الشَّهْرَسْتَانِيّ : عَالِمٌ كيِّسٌ مُتَفَنِّنٌ ، لولا تَخُبُّطُهُ في الاعتقادِ ومَيلُهُ إلى هذا الإلحادِ لكانَ هُوَ الإمامُ ، وكثيرا ما كُنَّا نَتَعَجَّبُ مِنْ وُفورِ فضلِهِ وكمالِ عَقلِهِ كيفَ مَالَ إلى شيءٍ لا أصْلَ لَهُ واختارَ أمرًا لا دليلَ عليه لا معقولا ولا منقولا ونعوذُ باللهِ مِنَ الخِذلانِ والحِرْمَانِ مِنْ نورِ الإيمانِ وليس ذلِكَ إلا لإعراضِهِ عَنْ نورِ الشريعةِ واشتغالِهِ بظلماتِ الفلسفَةِ وَقَدْ كَانَ بيننا محاوراتٌ ومفاوضاتٌ فكَانَ يُبالِغُ في نُصرةِ مَذاهِبِ الفلاسِفةِ والذَّبِّ عنهُم ، وقدْ حضرتُ عِدةَ مجالِسَ مِنْ وَعْظِهِ فَلَمْ يكُنْ فيها لَفْظُ قَالَ اللهُ ولا قَالَ رسولُ اللهِ ، ولا جواب على المسائلِ الشرعيِّةِ . اهـ .

وخامِسُها : أن لا يَكونَ له أخٌ صادقٌ نصُوحٌ يأخذُ بيدِه ، فإنَّ مِنْ توفيقِ اللهِ لِعبدِه أن يُهيّئَ لهُ صُحبةً صالحةً تَدُلُّهُ على الخيرِ وتُعِينُهُ عَلَيْهِ، وتُذَكِّرُهُ بِهِ.
وفي الحديثِ : إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالأَمِيرِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ ، إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ . رَوَاهُ أبو داودَ ، وصحَّحَهُ الألبانيُّ.
قَالَ أبو طالبٍ الْمَكِّيُّ : مَن عَرَفَ فَضْلَ الإخْوَةِ في اللهِ عزَّ وجلَّ، وعَلِمَ درجةَ المحبةِ للهِ تَعَالى، صَبَرَ لأخيه وشَكَرَ لَهُ وحَلُمَ عَنْهُ واحتمَلَ لَهُ، لِينالَ مَا أمَّلَهُ مِنْ مؤمِّلِهِ فيهِ ، ويبلغَ ما طَلَبَهُ مِنْ طالِبِهِ بِهِ، فإنَّ الصبرَ يُحتاجُ إليه لِيَتمَّ العملُ، والشُّكْرَ لا بُدَّ له مِنْهُ لِدوامِ النِّعمةِ ، ومَنْ طَلَبَ نَفيسا خَاطَر بِنفيسٍ، ومَنْ رَغِبَ في رَغْبَةٍ بَذَلَ لَها مَرْغُوبًا ، واللهُ عزَّ وجلَّ الموفِّقُ مَن يُحِبُّ لِمَا يُحِبُّ . اهـ .

وسادِسُها : أنْ يَطْلُبَ الأشياءَ في غير مظانِّها ؛ كَأنْ يَطْلُبَ المالَ مِنْ غيرِ حِلِّهِ، أو يستعينَ بِمَنْ يَخذُلُهُ .
قَالَ أَبو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ : مَنْ كَانَ شِبَعُهُ بِالطَّعَامِ لَمْ يَزَلْ جَائِعًا، وَمَنْ كَانَ غِنَاهُ بِالْمَالِ لَمْ يَزَلْ فَقِيرًا، وَمَنْ قَصْدَ بِحَاجَتِهِ الْخَلْقَ لَمْ يَزَلْ مَحْرُومًا، وَمَنِ اسْتَعَانَ فِي أَمْرِهِ بِغَيْرِ اللهِ لَمْ يَزَلْ مَخْذُولا .

وسابِعُها : أنْ يتّبِعَ الْهَوى ، فإنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْهَوَى هَوَى ..
ولِخطورةِ اتِّباعِ الْهَوَى ، فَإنَّ الحديثَ عَنْهُ سَيكونُ مُستقِلاًّ .

وثامنها : إضَاعَة الأوقات فيما لا يَنفَع .
فَمِن الخُذلان : أن يكون عندك وقت بل أوقات لِكلّ شيء ، مِن صُحُف ومواقع تواصُل ولَعَب ولَهْو ، ولا يكون عندك وَقْت للقُرآن ، ولِتعلّم العِلْم النافع الذي يُقرِّبك مِن الله ، ويُوصِلك إليه .

كانَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يقولُ : إنِّي لأكْرَهُ أنْ أرى الرَّجُلَ فارِغا ، لا في عَمَلِ الدنيا ، ولا في عَمَلِ الآخرةِ .
وقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غَرَبَتْ شَمْسُه ، نقصَ فيه أجلِي ولم يَزِدْ فيه عَمَلِي .

وذَلِكَ أنَّ كلَّ يومٍ مكسبٌ ، والمَغبُونُ مَنْ فرَّطَ فيهِ .

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : كُلُّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ الْمُؤْمِنُ غَنِيمَةٌ .

وكان السلف يَغْتَنِمُونَ أوقاتَهُم بِما يُقرِّبُهم إلى مَولاهُم .
قَالَ الحسنُ البصريُّ : أدْرَكْتُ أقواما كانوا على أوقاتِهم أشدُّ منكم على دراهِمِكُم ودنانيرِكُم !
وقَالَ ابنُ الجوزيِّ : الزمانُ أشرفُ شيءٍ ، والواجبُ انتهابُهُ بِفعلِ الخيرِ .

قال ابن القيم : إضاعة الوَقت أشَدّ مِن المَوت ؛ لأن إضاعة الوقت تَقْطَعُك عن الله والدار الآخرة ، والمَوت يَقْطَعُك عن الدنيا وأهلها . اهـ .

وإذا أرَدْت أن تَعرِف مِقدار الحرمَان في إضاعة الوقت : فانظُر إلى مَن يَقضِي الساعات أمام الشاشات ، ولا يَقتَطِع عشر دقائق للأذكار النافعة التي يَحفَظ الله بها العَبْد .
ولا يقتَطِع دقيقة واحِدة لِقَراءة ثُلُث القرآن (سورة الإخلاص) !!

رَبَّنَا أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ الإِسْلامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَاصْرِفْ عَنَّا الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا لأَنْعُمِكَ شَاكِرِينَ مُثْنِينَ بِهَا قَابِلِيهَا وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا .

خُطبة جمعة عن .. (اتِّباع الهوى)
http://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?t=12732


1435 هـ


الساعة الآن 09:00 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, by Sherif Youssef

يُشْترَطُ فِي حَالِ نَقْلِ الفَتَاوَى مِنْ مُنْتَدَياتِ الإرْشَادِ ذِكْرُ اِسْمِ فَضَيلةِ الشَيْخِ عَبْدِ الرَحمنِ السُحَيْمِ أَوْ ذِكْرُ اسْمِ المُنْتَدى